لم يكن المهاجرون من الشرق الأوسط وأفريقيا موضع ترحيب يوما في دول عدة على امتداد أوروبا.
ولكن دولا أخرى في القارة فتحت لهم أبوابها لسنوات، ثم بدأت اليوم بمراجعة موقفها رغم أن دافعها الإنساني لم يتغير.
القادمون في غالبيتهم الساحقة فارون من الموت والدمار والجوع في بلادهم، وحالمون بحياة أفضل لهم ولأولادهم وأحفادهم.
ما الذي تغير في معادلات "الدول الطيبة"، إن جاز التعبير؟ هل أصيبت القارة العجوز بتخمة في أعداد اللاجئين أم أنها الخشية من تغيرات مجتمعية يحدثها المهاجرون ولا تعجب السكان الأصليين؟ أو ربما تكون قلقة اقتصاديا صرفا من فقدان الوظائف، وتراجع مستويات المعيشة نتيجة الضغط المتزايد على الخدمات العامة وخزائن دول أوروبا؟
لطالما كانت تيارات اليمين في الدول الأوروبية ترفض اللاجئين لمجرد اختلافهم في العرق أو الدين أو الثقافة. ولكن ما تسوقه هذه التيارات من مخاوف إزاء قضية الهجرة اليوم بات يشكل محددا رئيسيا في السياسة الداخلية للأحزاب البرلمانية، حتى في الوسط واليسار، ليس بذات العنصرية الفجة، ولكن عبر براغماتية لا تخفي الجمر تحتها.
الأحزاب اليمينية التي أمسكت بالسلطة في دول مثل إيطاليا وهولندا تبشر بحقبة من التطرف الأبيض في أوروبا، وما تخطط له بلاد أخرى في القارة بشأن المهاجرين، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ينفي أي مبالغة في التنبؤ بتلك الحقبة التي قد تبدأ قبل نهاية العقد الثالث من الألفية الجديدة. خاصة إن بقيت تتسع رقعة الحروب والدمار حول العالم.
الحروب أينما وقعت تعني مزيدا من اللاجئين إلى الغرب المزدهر، وحالة الامتنان والقناعة والتسليم التي يعيشها الجيل الأول من المهاجرين تقل كثيرا في الجيل الثاني الذي يرى الأرض أرضه، والوطن وطنه، أما الجيل الثالث وما بعده فيطالب بتعميم قناعاته، ويشتكي من تجاهل السكان الأصليين لها، وكأنها جزء أصيل وراسخ من الثقافة العامة.
وفق مسودة البرنامج الجديد للحزب الديمقراطي المسيحي الألماني، حزب المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، "المسلمون الذين يشاركون الألمان قيمهم هم فقط من ينتمون إلى ألمانيا". كما يتوجب على المهاجرين بكل خلفياتهم الاعتراف بدولة إسرائيل وحقها في العيش، إن كانوا يريدون الحصول على الجنسية الألمانية والتمتع بالمواطنة الأوروبية.
الأخطر من هذه الأفكار هو التوجه الذي تفشى من المملكة المتحدة في عموم القارة العجوز، والمتمثل بترحيل المهاجرين إلى دولة ثالثة آمنة في أي بقعة حول العالم، فينتظرون هناك حتى يتقرر منحهم حق الإقامة والعيش على الأرض الأوروبية، أو نسيانهم لأجل غير مسمى، ومصير لا يمكن التنبؤ بتداعياته عليهم أو على الدولة المستضيفة.
الحكومة البريطانية اختارت رواندا لترسل اللاجئين إليها، فيما تكفل البرلمان بإصدار قانون يغلق أي باب إنساني أمام هؤلاء للاعتراض على الترحيل.
ثمة دول أوروبية تبحث الآن عن "وجهة آمنة" لتلحق بركب لندن. ودول مثل فرنسا تعد البيئة التشريعية اللازمة للترحيل قبل أن تختار من ستقوم بطرده، وإلى أين سوف تحمله طائرات باريس.
وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمان قال قبل شهر إن بلاده رحلت نحو ٩٠ أجنبيا متطرفا هذا العام، والوزير ذاته يسعى بكل جهد لإنتاج تشريع جديد يطلق يد السلطات في معاقبة كل مهاجر من الجيل الأول أو الثاني على مخالفته "القيم الفرنسية"، ودارمان يعتقد أن هذا التشريع سيضمن وصوله إلى قصر الشانزليزيه في انتخابات ٢٠٢٧.
الإيطاليون ضاقوا ذرعا بالمهاجرين أيضا، وباتوا يطالبون بتغيير ميثاق الهجرة الأوروبي برمته، أما بولندا فحكومتها ترفع شعار عدم توطين المهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا منذ سنوات، وفي هولندا فاز الحزب اليميني المناهض للإسلام بزعامة غيرت فيلدرز في الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
على وقع كل هذا الرفض للمهاجرين يقترب الاتحاد الأوروبي من "إصلاح" سياسته للهجرة تحت عنوان منع وصول مزيد من اللاجئين إلى دول الاتحاد، وفي حال وصولهم لن يكون مرحبا بهم. ولن تتردد كثير من حكومات التكتل في بذل أقصى جهودها من أجل إرجاعهم إلى أوطانهم، أو ترحيلهم إلى مكان آخر يبعد آلاف الأميال عن أوروبا.
يعرف الأوربيون أن المهاجرين يرفدون سوق العمل بأعداد جيدة ومشاريع مجدية اقتصاديا، ويعرفون أيضا أن معدلات النمو السكاني في بعض دول القارة العجوز استقامت أو سوف تستقيم عبر اللاجئين. ولكن هذا لا يبدو كافيا لوقف التحريض ضد من في غالبيتهم العظمى ينتمون إلى ديانة مختلفة وخلفيات أجنبية بالنسبة للسكان الأصليين.
لا تشكل تيارات اليمين المتشدد في المجتمعات الغربية أكثرية ساحقة، ولكن يبدو أن تأثيرها في المعادلة الانتخابية وتشكيل الرأي العام بدول أوروبا قد زاد كثيرا خلال السنوات الأخيرة، خاصة في قضايا الهجرة غير الشرعية والتحول الجنسي. مما دفع بالأحزاب السياسية نحو تضمين أجنداتها لأكبر قدر ممكن من العناوين التي تهم هذه التيارات.
يحسن اليمينيون المتشددون استغلال الأحداث الداخلية والخارجية لدعم توجهاتهم، فيجعلون من "هجرة القوارب" إلى بريطانيا غزوا، ويصورون التظاهرات في أوروبا لوقف الحرب في غزة معاداة للسامية، كما يربطون الإسلام بالإرهاب عندما يغضب الفرنسيون لمقتل يافع، وكلما أحسن هؤلاء في سردهم زاد تأييدهم واتسعت رقعة أنصارهم.
يقول فيزيائي وفيلسوف فرنسي يدعى بليز باسكال "إن التطرف يقود إلى التهور، في حين يفضي الاعتدال إلى الحكمة". لعل هذا يصل إلى مسامع الدول الأوروبية التي اختارت حلولا متطرفة لمواجهة المهاجرين، بدلا من تذليل جميع العقبات أمام اندماج اللاجئين وأولادهم في مجتمعات وصلوا إليها بحثا عن وطن مفقود.
فالبشر حيثما كانوا ليسوا إرهابيين بالوراثة. ولا يولد الإنسان بحقد أو كره أو قهر أو ذل حمله من حياة سابقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة