شيء ما يدعو للقلق العميق فيما يخص التعايش المشترك في أوروبا قلعة التنوير، حاضنة العلمانية، رائدة الحداثة.
شيء ما يدعو للقلق العميق فيما يخص التعايش المشترك في أوروبا قلعة التنوير، حاضنة العلمانية، رائدة الحداثة؛ إذ تعلو أصوات القوميات، وتتصاعد صيحات الهويات اليمينية المتطرفة يميناً ويساراً، ما يجعل السؤال: هل أوروبا مقبلة على مد ديني يميني يتنكر لتراثها في حرية الأديان والإنسان؟ وإذا كان ذلك كذلك فما السبب الحقيقي وراء هذه الصحوة اليمينية، والتي وصلت في الأسابيع الأخيرة حد اكتشاف الفرنسيين لخلية يمينية تتدرب على حمل السلاح؛ من أجل قتل أئمة المساجد والمحجبات، وفيما بينهم ضباط سابقون؟
ضمن الخطايا المميتة لا العرضية التي ارتكبها الأوربيون في العقد الماضي، وهي خطايا لا تزال قائمة في الأزمنة المعاصرة، السماح لرؤوس الأموال المسمومة بالدخول إلى قلب أوروبا، والمال القطري تحديداً بات أداة من كبريات أدوات الشر التي تلاعبت بالجاليات الإسلامية في أوروبا
مثير جدا شأن السياسات الأوروبية والأمريكية معاً، ففي حين أفرزت من جراء تعاطيها مع جماعات الإسلام السياسي واقعاً حياتياً ملتبساً، كرس لمزيد من الأصولية غير المرغوبة، وأرسى دعائم الإرهاب في العقود الماضية، نراها تتذرع بأن تحركات اليمين الأصولي هي ردَّات فعل للإرهاب القاعدي والداعشي اللذين ضربا القارة العجوز من بدايات الألفية الثالثة.
"المحتل لا ينجو ببراءة"، هكذا يتحدث المفكر الفرنسي الجنسية البلغاري الأصل "تزيفتان تودروف" والذي رحل عن عالمنا مؤخراً، وملاك قوله أنك لا تستطيع أن تزرع الأحقاد ثم ترحل هكذا آمناً مطمئناً دون خوف من تبعات أو نقمة التاريخ.
طويلاً جداً ساءلت الحكومات العربية دولاً أوروبية معروفة بينها، دول كبرى مثل بريطانيا، عن الأسباب المنطقية التي تجعلها تسبغ حمايتها على عناصر تنتمي للجماعات الإسلامية المتطرفة، من الجهاديين والسلفيين ومن لفَّ لفهم، وأكثر من ذلك فإن غالبهم الأعم مجرمون ومدانون في دولهم الأصلية، ومع ذلك تتذرع بريطانيا بأنها لا يمكنها تسليم هؤلاء لانعدام وجود اتفاقيات تسليم مجرمين بين البلدين.
لم يظهر المسلمون في أوروبا فجأة وعلى حين غرة، فقد بدأت مراحل الهجرة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان المسلمون من الأتراك بنوع خاص أول هذا الفصيل، ومنذ ستينيات القرن المنصرم باتت أوروبا مقصداً للشرق أوسطيين والأفارقة، ومن دول الشمال الأفريقي تحديدا، وهي دول كلها ذات غالبية مطلقة إسلامية.
يعنُّ لنا الآن تساؤل: لماذا الآن هذه الصحوة غير المحمودة تجاه الوجود الإسلامي في أوروبا؟ وهل وراء الأكمة ما تدركه النخبة ويغيب عن العوام؟
يحتاج الأمر لأبحاث معمقة وليس لسطور قليلة لتوضيحه، غير أن الهاجس الديموجرافي بات يمثل قلقاً للأوروبيين، ففي ظل معدلات مواليد يقترب من الصفر، وجد هناك من اليمين الأوروبي من يروج لمسألة "أسلمة أوروبا"، بمعنى أنه خلال بضعة عقود، سوف يحل المسلمون محل الأوروبيين، وعوضاً عن الهوية المسيحية الأوروبية، سوف نشهد أوروبا المسلمة.
يعزي البعض تصاعد المد اليميني الأوروبي إلى تيار الهجرة وجماعة اللاجئين الذين خلفتهم سنوت "الربيع العربي الكاذب"، ذاك الذي ضرب العالم العربي والإسلامي في السنوات السبع الماضية، ولا تزال آثاره الكارثية محدقة بالجميع، ومحلقة فوق رؤوسهم.
لكن الأوروبيين لم يسائلوا أنفسهم عن تشجيعهم لتلك التيارات الإسلاموية، البعيدة كل البعد عن سماحة الإسلام، وكذا عن عدله وإنصافه مع الذات، وتجاه الآخر، وفضلوا الخيار اليسير، أي تعليق التبعات برمتها على أولئك اللاجئين الغاصبين الذين يريدون تحويل أوروبا عن مسارها الهوياتي الطبيعي.
ضمن الخطايا المميتة لا العرضية التي ارتكبها الأوروبيون في العقد الماضي، وهي خطايا لا تزال قائمة في الأزمنة المعاصرة، السماح لرؤوس الأموال المسمومة بالدخول إلى قلب أوروبا، والمال القطري تحديداً بات أداة من كبريات أدوات الشر التي تلاعبت بالجاليات الإسلامية في أوروبا، وتحت ضغوطات الفقر والحاجة، استطاع القطريون خلق مناطق نفوذ إسلامي على أطراف باريس، يكاد المراقبون من الفرنسيين النطق اليوم بأنها خارج السيطرة الفرنسية، فهل كان هذا خطأ مسلمي أوروبا أم خطايا السياسات التي أتاحت لرأس المال المغشوش أن يشتري اسمها في سوق الحضارة والمجتمع الفرنسيين؟
الذين يحاولون اليوم إيقاع الضرر بمسلمي أوروبا بالقطع ليسوا بمسيحيين حقيقيين، فالمسيحية الحقة ديدنها المحبة وبذل الذات حتى النهاية من أجل الآخرين، ديانة شعارها.. "من سخرك ميلا فامش معه ميلين، ومن طلب ثوبك فأعطه رداءك أيضاً".. أين الإشكالية إذن؟
واقع الأمر أننا أمام حالة من حالات "ثأر المجتمع العلماني" من أوروبا برمتها، وفرنسا في القلب منها، ولعل أفضل من تحدث عن تلك الإشكالية من العقول الأوروبية الثائرة كان الفيلسوف الفرنسي "ريجيسى دوبرييه"، إذ يذكر في كتابه "الأنوار التي تعمي"، ما معناه أنه على الأوروبيين اليوم مراجعة أوراق العلمانية الجافة المسطحة، تلك التي تستبعد كل طرح ديني، في اتصاله مع الحياة الإنسانية، وكأن صيحة فصل الدين عن الدولة، يراد بها إنهاء الإيمان في قلب الإنسان.
"دوبرييه" وفى مؤلفه الشيق هذا، يذكّر الأوروبيين بأنه إذا كان لهم أن ينكروا الأصوليات المتطرفة، فإنه بالقدر نفسه يجب أن يكون لهم موقف واضح، حازم وجارم من العلمانية المتطرفة.
هل من مثال على تلك العلمانية الأوروبية التي تعمي، والتي يمكن لها حال مضت تجربتها البائسة قدماً أن تشعل التوتر الديني حول العالم من جديد؟
الأيام الماضية أعلن البرلماني الهولندي المتطرف "جيرت فيلدرز"، والمعروف بموافقة المناهضة للإسلام والمسلمين، عن اعتزامه عقد مسابقة دولية لرسومات كاريكاتورية حول "نبي الإسلام ورسول المسلمين" بحسب توصيف العنصري.. ما يجعلنا نتذكر فتنة رسومات "شارلى أبيدو" والجدل الذي أنطلق من حولها قبل سنوات، وهل الأمر حرية رأى وفن وتعبير أم إنه إشعال لنار الفتنة بين الأمم والشعوب، وتغذية مشاعر الكراهية والتمييز؟ الأمر الذي يصب في نهاية المشهد بلا شك في صالح الجماعات المتطرفة والتيارات الإرهابية الأصولية.
وعلى الرغم من المشهد الأوروبي الملبد بغيوم الأصوليات المتطرفة، فإن المناخ هناك أيضا لا يعدم رسل سلام وحوار بالمرة، ففي نهاية شهر يونيو الماضي كان صوت البابا فرنسيس بابا الفاتيكان يعلو منادياً بتعزيز الحوار بين المؤمنين من الديانات المتعددة، كشرط للإسهام في السلام العالمي، وعنده أن هناك ثلاثة تصرفات أساسية يجب اتباعها لتعزيز الحوار وهي: ضرورة الحفاظ على الهوية، وشجاعة الاختلاف، وصدق النوايا.
الأخوّة الحقيقية عند الرجل ذي الرداء الأبيض تعاش من خلال الانفتاح على الآخر، والدين في تقديره ليس بمشكلة وإنما هو جزء من الحل، والعمل على تنمية ثقافة اللقاء والحوار، وتعزيز السلام، والدفاع عن قدسية كل حياة بشرية ضد جميع أشكال العنف الجسدي، والاجتماعي، التربوي أو النفسي، هي الأصل.
الخلاصة: الكراهية لا تفيد.. الحوار هو الحل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة