استراتيجية "السيادة": كيف تستعيد أوروبا دورها على الساحة الدولية؟

تساؤلات عدة حول فاعلية الدور الأوروبي على الساحة الدولية، هل أوروبا لا تزال فاعلا رئيسيا في السياسات الدولية؟
ثمة تحديات عدة باتت تواجه الاتحاد الأوروبي، وتعالت كثير من الأصوات التي تنتقد العملية الاندماجية الأوروبية برمتها، وهو ما يُعْرف بـEuroscepticism، وتتراوح ما بين أولئك الذين ينتقدون مؤسسات الاتحاد الأوروبي مطالبين بإصلاحها، وأولئك الذين يرون أنه لم تَعُد هناك جدوى من انضواء الدول الأوروبية تحت مظلة الاتحاد، ومن ثم ينظرون إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي باعتباره الخيار الأفضل.
وامتدت الانتقادات الأوروبية، الصادرة عن البعض ممن يؤيدون الاتحاد الأوروبي أو يعارضون الاستمرار فيه على حد سواء، إلى إدراك هذه الدول لطبيعة الدور الذي يضطلعون به على الساحة الدولية، وأضحت تُطْرح تساؤلات عدة حول فاعلية الدور الأوروبي على الساحة الدولية؛ هل أوروبا لا تزال فاعلا رئيسيا في السياسات الدولية؟ وهل لا تزال تتمتع بسيادة تخول لها اتخاذ قرارتها باستقلالية دونما أية ضغوط أو إملاءات خارجية؟
هذه التساؤلات تطرحها ورقة سياسات نُشِرت على موقع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تحت عنوان "السيادة الاستراتيجية: كيف تستعيد أوروبا قدرتها على الاضطلاع بدور فاعل على الساحة الدولية"، وقد حاولت الورقة توصيف التحديات التي تواجه السيادة الأوروبية، وتقديم توصيات يمكن من خلالها تطوير القدرات الأوروبية لاستعادة دورها على الساحة الدولية.
تحدي السيادة الأوروبية:
ترى الورقة أنَّه في أعقاب انتهاء الحرب الباردة بنى الأوروبيون تصورا حول النظام الدولي المأمول، وهو نظام يقوم على مرتكزات ثلاثة، أولها: التعددية والارتكان إلى القواعد والقوانين الدولية كأساس للعلاقات الدولية، سواء أكانت تلك العلاقات صراعية أم تعاونية. أما المرتكز الثاني فهو تأسيس تحالف أمني مع الولايات المتحدة، ويُقْصد به حلف الناتو، يقوم على القيم والمصالح المشتركة، ويُعَد تدشين الدول لعلاقات تجارية حرة وعادلة تحقق الربح للجميع وتولي أهمية كبرى لحماية المستهلك، وليس فقط الربح التجاري للمنتجين هي المرتكز الثالث للنظام الدولي وفقا لتصور الدول الأوروبية.
بيْدَ أنَّ هذا التصوُّر الأوروبي بات يواجه كثير من التحديات التي تكاد تعصف به، إذ ترتئي الورقة أن إدارة "ترامب" اتخذت العديد من الإجراءات التي تقوض القواعد التي ارتضتها الدول كأساس يحكم النظام الدولي ويحول دون الفوضى العالمية، ولا أدل على ذلك من إعلان الولايات المتحدة انسحابها رسميا من اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة اليونيسكو، ومعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى مع روسيا، بالإضافة إلى تصريحات "ترامب" المتكررة حول الانسحاب من منظمة التجارة العالمية حال عدم إجراء عملية إصلاحية لنظامها الأساسي وقواعدها الحاكمة. وكل هذه الأمور تثبت حقيقة واحدة مفادها أن دول العالم لم تَعُد على قناعة بأهمية العولمة وإذابة الحدود بين دول العالم، وضمان تدفُّق السلع والبضائع ورؤوس الأموال والأفراد، بل الأفكار أيضا بحرية وسلاسة، وأصبحت الدول أكثر انكفاء على مصالحها وأولوياتها وإشكالياتها. ولا يقتصر هذا المُدْرك على علاقات الدول الأوروبية بدول العالم، بل يمتد ليشمل العلاقات البينية الأوروبية، إذ تعالت الكثير من الأصوات الأوروبية التي باتت تهاجم سياسات الاتحاد الأوروبي، ووصل الأمر إلى حد المطالبة بالخروج منه.
استراتيجية "السيادة الأوروبية":
لمواجهة التحديات التي باتت تواجه السيادة الأوروبية مما أضعف الثقل الأوروبي على الساحة الدولية، ارتأت الورقة ضرورة صياغة استراتيجية "السيادة الاستراتيجية الأوروبية"، والتي ترمي إلى مقاومة الهشاشة الأوروبية في مقابل الضغوط الخارجية التي باتت تتعرَّض لها أوروبا، وتعزيز استقلالية الاتحاد الأوروبي وسط حالة التنافس الشرسة التي يشهدها النظام الدولي.
وتتطلب عملية صياغة الاستراتيجية أنْ تقوم الدول الأوربية بتحديد أبرز التحديات التي تواجهها على مختلف المستويات الاقتصادية، الأمنية والدفاعية، السياسية والدبلوماسية، فضلًا عن تطوير القدرات الذاتية وبناء المؤسسات اللازمة لتنفيذ مثل هذه الاستراتيجية. والنقطة الأهم في هذا الصدد، هو تعميق الإدراك بأنَّ هذه الاستراتيجية تمثِّل جزءا لا يتجزأ من الهوية الأوروبية، وتجليا لمدرك أوروبي مفاده أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى أن يتعاطى مع تحدياته الراهنة، من منطلق أنه قوة جيوبوليتيكية موحدة دونما الانسحاب من المنظمات والترتيبات الدولية القائمة، فحلف شمال الأطلسي أو الشراكة الأمنية والدفاعية مع الولايات المتحدة لا تزال مهمة للأمن الأوروبي.
برنامج عمل لتطوير القدرات الأوروبية:
عقب صياغة استراتيجية السيادة الأوروبية تأتي الخطوة الثانية المتمثلة في وضع برنامج عمل لبناء القدرات الأوروبية اللازمة لإدخال الاستراتيجية حيز التنفيذ الفعلي، واستضافت الورقة في الحديث حول معالم هذا البرنامج، وأبرز الحلول المقدَّمة لمواجهة التحديات والأمنية والسياسية، فعلى المستوى الأمني والدفاعي قدَّمت الورقة جملة من الحلول والتوصيات، لعل أبرزها تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية والوجود العسكري الأوروبي في شرق أوروبا، لحمايتها من التهديدات الروسية، بالإضافة إلى تعزيز الدور الأوروبي في مجال حفظ الأمن والسلم الدولييْن في كل من كوسوفو، وهي إحدى دول البلقان القابعة بجنوب شرق أوروبا والقارة الأفريقية، وذلك بإرسال بعثات حفظ سلم أوروبية هناك، بالإضافة إلى تدشين نظام سيبراني فاعل لحماية الأمن الأوروبي من أية تدخلات خارجية، وضمان شفافية الاستثمارات الأجنبية بما لا يُخِّل باعتبارات أمن الدول الأوروبية.
وعلى الصعيد الدبلوماسي والسياسي، قدَّمت الورقة كثيرا من التوصيات، لعل من بينها العمل على تقديم رؤية أوروبية لإصلاح منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، فضلًا عن تأسيس خطة أوروبية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، للتعاطي بفاعلية مع قضية الهجرة، وكذا تفعيل مستويات الاندماج العالمي، وقد أشارت الورقة إلى ضرورة وضع قواعد أوروبية بديلة حال إيقاف العمل بقواعد منظمة التجارة العالمية، إلى جانب دعم بنك الاستثمار الأوروبي لتعزيز دور أوروبي فاعل على الساحة الدولية فيما يتصل بحقل التنمية.
وختاما.. تؤكد الورقة أن كافة الخطوات والمراحل اللازمة لتعزيز السيادة الاستراتيجية الأوروبية واستعادة الدور الأوروبي الفاعل والمؤثر في السياسة الدولية، بدءا من صياغة الاستراتيجية، ووضع برنامج عمل لتنفيذها حتى إدخال البرنامج حيز التنفيذ الفعلي تتطلب تضافر الجهود تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، فذلك التعاون هو الضمانة الأهم لمأسسة الاستراتيجية وفاعلية تنفيذها، كما يجب البدء في إعداد الكوادر البشرية من التكنوقراط والموظفين للتعاطي بفاعلية مع أية تحديات قد تواجه عملية التنفيذ.