لم يكن اسم هنري الثالث عشر معلومًا للعالم قبل عملية مكافحة الإرهاب الكبيرة، التي نفذتها الشرطة الألمانية ديسمبر الحالي.. ذلك "الأرستقراطي" زعيم التنظيم السري من اليمين المتطرف لإطاحة نظام الجمهورية الألمانية.
ضم هذا التنظيم عددًا من المسؤولين المهمين وعضوًا سابقًا في البرلمان وقاضيا على رأس عمله، بالإضافة إلى ضباط وعسكريين متقاعدين من القوات المسلحة الألمانية، مُخطِّطًا لانقلاب مفاجئ كان يستهدف احتجاز البرلمان الألماني وإقامة نظام حكم جديد يعود بألمانيا مئات السنين.
على مستوى أوروبا والولايات المتحدة صار التطرف اليميني مصدر قلق يتزايد في السنوات الأخيرة، خصوصًا مع بدء تراجع الهجمات الإرهابية وانغلاقها في مناطق صراع محددة، ويبدو أن جائحة كورونا والانعزال خلالها أسهما بشكل كبير في ارتفاع عدد المتأثرين بدعاية جماعات اليمين المتطرف، التي كانت مرتعا خصبا لنظريات المؤامرة، في ظل مشاعر الخوف والوِحدة والقلق التي مرت بالبشرية، وجعلت من رسائل هذه الجماعات ودعايتها الأكثر تداولا في وسائل التواصل الاجتماعي، إذا ما تمت مقارنتها بباقي رسائل الجماعات المتطرفة الأخرى.
ولا يمكن قَوْلبة الفكر اليميني المتطرف في عقيدة واحدة متماسكة، وإنما هي أفكار فضفاضة ذات طابع عنصري مُعادٍ للمهاجرين، وللغير عموما، تستخف وتقوّض أنظمة الدول ولا تعترف بها، وقد وجد اليمين المتطرف أيديولوجياتٍ جاهزة ومتاحة للاستخدام كالنازية أو الفاشية أو حتى أنه طوّر فهما مدمِّرا لنصوص الدين المسيحي.
ويستخدم اليمين المتطرف أيضًا وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متزايد لنشر دعايته ونظرياته وتجنيد أعضاء جدد، ومع تشديد الرقابة على محتوى المنصات الكبرى لجأ أفراده إلى المنصات الأقل انتشارًا والأضعف رقابة، ما سمح له بنشر دعاية أكثر تشددًا عبر هذه المنصات، ورغم اختلاف أيديولوجيات الجماعات اليمينية المتطرفة من دولة لدولة فإن المتتبع لدعايتها يجد تلاقُحًا فكريا جديدا عابرا للحدود بين دعايتها في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا، ما يدفع للتساؤل عن مدى خطورة تطور هذا التلاقي إذا ما تم من الناحية السياسية والتنظيمية.
التطرف اليميني في ألمانيا مثلا متجذر في تاريخ طويل من العنصرية ضد الأجانب.. وقد كانت أفكاره موجودة منذ منتصف القرن التاسع عشر واكتسبت أهمية أكبر في السنوات الأخيرة.
وتم ربط اليمين المتطرف بالعديد من أعمال العنف، بما في ذلك اغتيال أحد رجالات السياسة الألمان المؤيدين للاجئين في عام 2016، والهجوم على كنيس في عام 2019، ومحاولة اختطاف وزير الصحة والتجمهر أمام البرلمان لتعطيله، ومناوشات متفرقة مع اللاجئين والمهاجرين هنا وهناك، إلا أن التصعيد الجديد بمحاولة انقلاب إيذانٌ بمرحلة جديدة من الخطورة التي تمثلها هذه التنظيمات، وصار أمرها يسترعي ضرورة التعامل الحازم الصارم.
ويبدو أن إرهاب اليمين المتطرف شارف على الوصول إلى مرحلة النضج التنظيمي، فحركة "الرايخسبيرغر"، المسؤولة عن محاولة الانقلاب في ألمانيا، استهدفت تجنيد موظفين في مفاصل الدولة، كما أن أتباعها من مرحلة سنِّيّة أكبر بكثير من الجماعات اليمينية الأخرى، وقد جندت أفرادا وضباطا في جهات أمنية وعسكرية، وخزنت أسلحة واستغلت حزب AfD "البديل" المتشدد كجناح سياسي لها، ووردت تقارير أيضا بأن الحركة تواصلت مع دول أجنبية لدعمها، أو الاعتراف بها بعد وصولها إلى سُدة الحكم، واستلزم أمر القبض عليها من الشرطة الألمانية تحريك 3000 فرد، وهو دليل على أن خطرها لم يكن سهلا أو عابرًا.
في الخلاصة، فإن من المُرجّح أن يزداد إرهاب اليمين المتطرف في المرحلة القادمة، خصوصًا إذا ما استمرت دعايته بالانتشار، وجماعاته بالتكاتف والتفاعل والتنظيم فيما بينها، في ظل غياب إطار عالمي واضح لمكافحة ومواجهة هذا الشكل القبيح من التشدد، وفي ظل تفاوت القوانين وجدية الحكومات الغربية وأحزابها السياسية، التي قد تُداهن قاعدتها الانتخابية على حساب أمنها الاجتماعي، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المتأزم، الذي يضاعف قوة دعاية الجماعات اليمينية في هجومها وتشكيكها في كفاءة الدول وأنظمتها السياسية.
هذا في ظل الوضع الدفاعي وانحسار شكل الإرهاب الديني، الذي قد يكون بلغ ذروته وترك الساحة لليمين المتطرف ليتسيّد مشهد الإرهاب العالمي في السنين القادمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة