تعتبر الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني الإسلامي حقيقة قديمة في المجتمعات العربية والإسلامية.
فما الاجتهاد، الذي يكاد يرقى إلى مرتبة الفرائض في الإسلام ويحتل مكانة بارزة في مصادر التشريع الإسلامي، سوى المظهر الحي المتجدد لها.
ومن المعروف أن هذه المصادر نحو عشرة، الأربعة الأولى منها متفق عليها بشكل عام والباقي وردت اختلافات حوله، وهي: الاستحسان، والاستصلاح أو المصالح المرسلة، والاستصحاب، والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع.
ومن الشروح المتوارثة والمتفق عليها أيضا لكل هذه المصادر يبدو واضحا أن اجتهاد الفقهاء والعلماء والمختصين يكاد يشملها جميعا، عدا المصدرين الأولين.
ويرتبط طرح دعوة تجديد الخطاب الديني الإسلامي بشكل عام بهذه المكانة المتميزة للاجتهاد بصوره المتنوعة بين مصادر التشريع الإسلامي، فالتجديد لن يتم دون اجتهاد، والاجتهاد في جوهره تجديد مستمر للفقه والتشريع، دون مساس بثوابت الإسلام.
من ناحية ثانية، وبصورة أكثر عمقًا، فإن تجديد الخطاب الديني هو أكثر اتساعا وشمولا وتعقيدًا من مجرد تجديد النصوص الإسلامية، وبالقطع بعيدًا عن القرآن الكريم والسنة الشريفة الثابتة.. فمصطلح الخطاب -أي خطاب- في حد ذاته لا يعنى النص، بل هو يعنى النص مرتبطا بالسياق والظروف التي ينتج ضمنها ويتفاعل معها.. وبالتالي فإن تجديد ذلك الخطاب لا يمكن له أن يتم سوى بتجديد موازٍ في ذلك السياق وتلك الظروف المحيطة.. ولا يعنى هذا تأجيل مهمة تجديد النصوص الدينية أو المتشابكة مع الدين والدائرة حوله -ومرة أخرى بالقطع بعيدًا عن القرآن الكريم والسنة الشريفة الثابتة- حتى تتم مهمة التجديد المؤسسي والمجتمعي بأكملها، وإنما يعنى تأكيد أن ذلك التجديد في النصوص لن يؤتي ثماره إلا إذا تم تجديد موازٍ ومماثل في المجتمع والدولة.
ويؤكد هذا أن خبرة التاريخ الإسلامي الطويل في شتى مناطق العالم وكذلك خبرات شعوب العالم الأخرى في مختلف مراحلها، توضح أنه لم يحدث قط تجديد حقيقي وفعال في خطاباتها بمختلف أنواعها، سوى بتغيير كبير في البنى والعلاقات الاجتماعية والسياسية متوازيا مع جهود فكرية وعقلية واسعة وشاملة لتجديد الأفكار والرؤى، بما يخلق حالة عامة من التجديد دفعت تلك المجتمعات برمتها خطوات بعيدة إلى الأمام، وكل هذه العملية المعقدة لم تأتِ سوى من داخل الدين نفسه والمجتمعات نفسها التي يوجد بها، وليس من خارجها، مع الاستفادة بخبرات العالم ذات الصلة.
والنظر والدراسة في التاريخ الإسلامي وتجارب مجتمعات العالم الأخرى فيما يخص عملية تجديد الخطاب الديني، يفيدان في التعرف بدقة على الشروط التي تمت ضمنها تلك الخبرات والآليات التي استخدمت في إنجاحها، ما يؤدي إلى التعرف على الإمكانيات الواقعية للاستفادة منها وإعادة إنتاجها بصورة جديدة في ظروفنا الحالية.
كذلك فمن القضايا الرئيسية التي يجب النظر إليها في مهمة تجديد الخطاب الديني الإسلامي من خلال الخبرات السابقة، تحديد طبيعة المنوط بهم القيام بها، وهل تعد هذه المهمة فردية يقوم بها من يرغب ويستطيع من أبناء الأمتين العربية والإسلامية، أم أنها يجب أن تكون ذات طابع جماعي منظم، بحيث تضطلع بها مؤسسات وجمعيات وجماعات متخصصة، أم يقوم بها الطرفان.
وفي حالة الإجابة بأن طابع تلك المهمة أقرب للعمل الجماعي، فإن تحديد المؤسسات القائمة الآن في المجتمعات العربية والإسلامية والتي يمكن لها الإسهام في القيام بها بصورة فعالة تضمن لها قدرا من النجاح، يعد مهمة عملية رئيسية أولى.
وتتمثل المهمة العملية الثانية في التعرف الدقيق والتقويم لهذه المؤسسات القائمة المرشحة للقيام بالتجديد، وما إذا كانت هي بذاتها بحاجة إلى التطوير والتجديد لتستطيع القيام به.
وفي حالة الإجابة بنعم، تظهر المهمة الثالثة والأخيرة والصعبة، وهي كيفية إصلاحها وتطويرها، أي هذه المؤسسات، أو تأسيس مؤسسات جديدة للاضطلاع بمهمة تجديد الخطاب الديني، وهو ما يطرح تساؤلا جوهريا يحتاج إلى إجابة عملية واقعية حول طبيعة تلك المؤسسات وأنواعها ومجالاتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة