هل اكتشفت البشرية أنها أسيرةُ العالم الرقمي السيبراني في الساعات الخمس التي تعطلت فيها بعض وسائط التواصل الاجتماعي أمس الأول؟
التساؤل المتقدم يلقي بظلال كثيفة من المخاوف على حاضر ومستقبل الإنسانية، لا سيما إذا قُدّر لشبكة الإنترنت بدورها لسبب أو لآخر أن تتعطّل ذات مرة لأجَل طويل وليس لبضع ساعات فقط، إذ كيف ستكون حالُ العالم وقتها بعدما بات معتمدًا بشكل رئيس على الشبكة العنكبوتية في غالبية، إن لم يكن كل، مناحي حياته.
يعِنّ للمرء أن يتساءل: تُرى فكرة العالم الرقمي والماورائيات السيبرانية ووسائط التواصل الاجتماعية نعمة أتيحت للإنسانية أم نقمة حَلّت بها، ويمكنها أن تدمّر حياتها حال اختفائها؟
الذين تابعوا حالة البشرية في الساعات الخمس لغياب "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتس آب"، ربما قدر لهم اكتشافُ هول الأمر، فقد بدت بضعة مليارات من البشر حول العالم وكأنه تم فطامهم دفعةً واحدة ومن غير سابق إنذار من المعرفة التي تغذي عقولهم، أو دروب الاتصالات التي تقيم حياتهم المعاصرة.. ومن هنا يمكن لنا رصد بعض الملاحظات والتفكير فيها بعمق.
بدايةً ورغم إعلان الشركة الأم لفيسبوك عن سبب العطل والمتمثّل في تعديلات خاطئة في الإعدادات، فإن الحقيقة تظلّ غير واضحة بما يكفي، لا سيّما أن هناك من يقطع بأنّ قرصنة من نوع ما جرتْ لتلك الشبكات، وفي إطار المواجهات السيبرانية الكفيلة بأن تحوّل العالم إلى جحيم مشتعل بشكل غير مباشر لو أراد البعضُ.
القصة باختصار غير مُخل تتمثّل في أنّ الحروب الحديثة، حروبَ الجيل الخامس وما بعدها، سوف تجري من غير إطلاق رصاصة واحدة.
ويكفي أن تتقاتل الأمم والشعوب من خلال هجمات سيبرانية متبادلة تقوم بإحداث شلل تام في البنية التحتية للعدو، من مطاراتٍ ومحطّات توليد الطاقة، ومن موانئ إلى شبكات البثّ والإعلام، وصولاً إلى البنوك والمستشفيات، أمّا أدوات الحرب التقليدية من سفن وطائرات، دبابات ومدافع، فيمكن تحويلها إلى قطعٍ من الحديد الخُرْدة التي لا تنفع ولا تضر.
ولعلّ الأعوام القليلة الماضية، وبالتحديد بدءًا من عام 2016، أي وقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية والصراع بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، قد فتحت الأبواب واسعةً لصولات وجولات من الاعتداءات المتبادلة بين الأقطاب الكبرى، وقد كانت الجولة الأخيرة التي جرت فيها اعتداءات كارثية لا يعرف أحد مقدار ضررها، هي تلك التي حدثت في الداخل الأمريكي في ديسمبر 2020، وقبل أن يتسلم جوزيف بايدن مُقدّرات الحكم في بلاده.
هنا نستدعي من رحم الغيب علامة استفهام: "هل ما جرى في تلك الخمس ساعات كان حلقة جديدة من حلقات الاستعدادات التكتيكية لمعرفة كيفية تصرف العالم حال اختفاء تلك الأدوات التي باتت تمثّل الجسر والقنطرة بين البشر في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟
تبدو الأسئلة هنا أهمّ من الإجابات، ويخشى المراقب المحقّق والمدقّق لتلك الوسائط من أن تصل يومًا ما إلى درجةٍ من التعملق وربّما التوحّش، التي لا يستطيع فيها البشر الخلاص من عبوديّتها، وقد تصبح أدوات شمولية في أيدي أنظمة حكم غير ديمقراطية، تحرّك بها البشرية كأحجار شطرنج على رقعة إدراكية.
أدرك سادةُ أمريكا وساكن "البيت الأبيض" خلال ساعات اختفاء فيسبوك ونظرائه حقيقةَ ارتهان العالم غير المبرر وغير المفهوم لشركة واحدة أو بضع شركات، وكيف يمكن لها أن تتلاعب بمستقبل البشرية.
وقد جاء التعبير مباشرًا من غير التواء أو تبرير، فقد أشارت جين ساكي، المتحدثة باسم "البيت الأبيض" بأن مواقع التواصل الاجتماعي أثبتت أن لديها قوة لا تستطيع السيطرة عليها، وأنها بحاجة إلى إصلاحات وللسيطرة عليها بشكل أقوى من خلال القوانين الداخلية.
أكثر من ذلك، فقد استمعنا في ساعات الأزمة إلى آراء لبعض الأمريكيين ذهبتْ إلى حدّ التفكير في تغيير الدستور الأمريكي إذا كانت مسألة صيانة الحريات تقود إلى تكبيل مستقبل البشر من خلال بعض الأدوات العصرانية التي تحفظ الحق الرئيس والأهم في الحياة، ألا وهو الحياة نفسها وصيانتها من أي مخاطر تُحدق بها عمدًا أو بطريق غير مباشر من قِبَل جماعة بشرية أوليجاركية، وهو ما لا يتسق وأبجديات العالم الحر الديمقراطي والليبرالي.
من هذا المنطلق، ربّما يَخلُص البعضُ إلى أنّ الإنترنت ووسائط التواصل بمختلف أشكالها ليست سوى نقمة حَلّتْ على البشرية.
تبدو هذه الخلاصة حدّيّة بدرجة كبيرة، لا سيّما أن العالم السيبراني وفي وقت جائحة كوفيد-19 أثبت نفعًا كبيرًا جدًّا، على أكثر من صعيد، لا سيّما في مجالَيْ التعليم والصحة.
في مؤلَّفه الشيّق "عشرة دروس لعالم ما بعد الوباء"، يحدّثنا الكاتب الأمريكي من أصول هندية، فريد زكريا، عن شعور الناس بالقلق من أنّه إذا أصبح الذكاءُ الاصطناعيّ أكثر تطورًا فسنعتمد على حواسيبنا كثيرًا حتّى ينتهي بنا المطافُ إلى التفكير فيها على أنّها أصدقاؤنا، فنصبح غير قادرين على العمل دونها.
المخاوف قد تكون مبرَّرةً من جانب، لكن من جانب آخر يمكن بالفعل للهاتف أن يقدّم لصاحبه معلومات أكثر من أيّ إنسان عرفه، كما يمكنه أن يحلّ المهامّ المُعقَّدة خلال أجزاء من الثانية، ويمكنه أن يقوم بدور التلسية والترفيه بمحتوى يتجاوز حدود الزمان والمكان.
لقد أثبتتْ وسائط التواصل أهمّيّتها في وقت الجائحة من خلال التعليم عن بُعْد، ووفّرت مسارات ومساقات لتلقّي العلوم ومتابعة الدراسة في وقتٍ كان الفيروس الشائه ينتشر مهدّدًا البشرَ.
وبالقدر نفسه على الصعيد الطبّي، فقد تمكّنتْ أداواتُ التواصل هذه بالصوت والصورة من إنقاذ الكثيرين في أوقات صحية حرجة من خلال التشخيص ولو عن بُعْد، وهذا أمر جَيّد يُحسَب لها.
وكما يتمّ توجيه الاتّهامات لوسائط التواصل بأنّها باعدت بين البشر وخلقت منهم عالمًا أقل إنسانوية، فإنها بالقدر عينه قَرّبت بينهم وجمعتهم ولو بالصوت والصورة في الوقت الذي توقّفتْ فيه الطائراتُ عن الطيران وتعطّلتْ السفنُ عن الإبحار، لا سِيّما في الأشهر التي عرفت فيها دولُ العالم حالةَ الإغلاق لمنع تفشّي الجائحة.
تبدو الخليقةُ أمام حالة من التضادّ في الروح الواحدة، بين مخاوف ومزايا، الأمر الذي يستدعي حالةً من التعقّل والتفكير برأس باردة للخروج من الأزمة بأقل التكاليف.
تحتاج هذه الشركات العملاقة إلى نوع من اللوائح والتشريعات التي تحفظ حقّ الشعوب في الأمن والأمان، وفي نفس الوقت توفّر لهم خدمات متميّزة عصرانيّة.
وفي حالة شركة فيسبوك، بدا من الواضح أن هناك اختلالات هيكلية في داخل الشركة أشارت إليها فرانسيس هوجين، الرئيسة السابقة في الشركة، مساء الأحد السابق، لأزمة الانقطاع عبر برنامج "60 دقيقة" الأمريكي الشهير، إذ قالت إن عملاق التواصل الاجتماعي يطبّق قواعد مختلفة على الحسابات رفيعة المستوى، مبرزةً أنّ المنصّة لعبتْ دورًا في هجوم 6 يناير على مبنى الكابيتول، كما أنّ شركة فيسبوك تضع الأرباح في مقدّمة اهتماماتها على حساب خطاب الكراهية.
الخلاصة، السكتة الرقمية الأخيرة أثبتتْ أن العالم في حاجة لمراجعة عقلانية لعالم الوسائط السيبرانية، وليس الاجتماعية فحسب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة