جميع المجموعات المسلحة المتناحرة في الشمال السوري نبتت وازدهرت وتفرعت في حاضنة واحدة هي أردوغان .
المعارك المستعرة بين المجموعات الإرهابية في الشمال السوري لا تندرج في سياق الاشتباكات العابرة أو المناوشات المعتادة، وهي ليست غريبة أو مفاجئة، بل يمكن القول إنها تحصيل حاصل لتطور الصراع الذاتي بينها على النفوذ وعلى المكاسب وعلى المصالح الظرفية المتاحة وعلى المصالح الكامنة في طيات المستقبل الذي يتوهمون أن دوراً ما سيكون لهم فيه.
تلك المصالح يتطلب نوالها والاستئثار بها عملاً كبيراً ومعارك طاحنة لإزاحة الآخر بل وإلغائه للفوز بالغنائم دون تقاسمها مع أي طرف آخر، هذا ما تشي به خارطة الصراع الحالية بعد أن اتضحت معالم وأهداف كل مجموعة من جهة، ووظيفة كل منها من جهة أخرى.
ولا يخرج عن هذا المشهد تصور الأبعاد والتطورات المقبلة باعتبار أن جميع المجموعات المسلحة المتناحرة نبتت وازدهرت وتفرعت في حاضنة واحدة هي أردوغان .
قراءة متأنية لطبيعة وحيثيات دوافع أردوغان ومخططاته وأجندته، وكذلك غاياته ومراميه التي يسعى لتحصيلها وتحقيقها جراء حرب التصفيات الدائرة بين مجموعاته المسلحة، تُفضي إلى أن العثماني الجديد لم يجد مناصاً من افتعالها بطرق غير مباشرة، وتغذيتها وتأجيجها لتكون حرباً بين مجموعاته المسلحة بدل أن يجد نفسه وجنوده في مواجهة عسكرية معها جميعاً وفقا لما تنص عليه القرارات الدولية التي صنفت جبهة النصرة ومن يواليها كمنظمات إرهابية ولابد من استئصالها، وهو الراعي والحامي لها، وكذلك ما فرضته اتفاقات سوتشي وتفاهمات مسار آستانا عليه، وتعهداته بشأن إنهاء الوجود الإرهابي للمسلحين التابعين له في الشمال السوري .
من الطبيعي أن تتصاعد المواجهات تدريجياً بين المجموعات الإرهابية لأسباب كثيرة منها التناقضات الإيديولوجية والتباينات المناطقية والأجندات الموكلة إلى كل منها.
اتساع دائرة المواجهة يوماً بعد يوم بين هذه المجموعات في الشمال السوري عموما وفي إدلب وريفها بشكل خاص، بعد أن كانت محدودة وتندلع بدوافع مصلحية أو حتى خلافات شخصية بين مجموعة من هذا الفصيل أو ذاك، تطرح جملة من الأسئلة ؛ هل حان موعد التصفيات النهائية ؟ وهل بدأ فعلياً صراع الوجود بين المجموعات الإرهابية ؟ هل دقت ساعة الاستحقاقات الكبرى وتنظيف ساحات سورية من ما تبقى من فلول المنظمات الإرهابية ورعاتها ؟ هل ستكون هذه المرة حرب إلغاء ويكون البقاء فيها للأقوى ؟ من هي المجموعة الإرهابية الأكثر حظاً بالبقاء إلى نهاية المضمار، في حال بقيت إحداهن، ما هو مصيرها لاحقاً ؟ هل سيُسمح بالغلبة لأي مجموعة إرهابية من بين تلك المجموعات كونها الأكثر تطرفاً وخدمة لسيدها العثماني ؟ بالتوازي مع هذه الأسئلة ؛ لماذا تلوذ أنقرة بالصمت حيال الاقتتال المتصاعد بين أجنحة مجموعاتها الإرهابية التي تخضع لإمرتها وتبعيتها ؟ أليس جديراً بأردوغان بصفته راعياً لجميع تلك المجموعات، وهو يتبناها ويدعمها ويستخدمها داخل سوريا وخارجها، أن يمنع هذا الاقتتال لكي يحافظ على خزّانه الإرهابي ؟ في أي مرحلة من مراحل الصراع يمكن أن تتدخل تركيا وإلى جانب أي مجموعة إرهابية ؟ .
من الطبيعي أن تتصاعد المواجهات تدريجياً بين المجموعات الإرهابية لأسباب كثيرة منها التناقضات الإيديولوجية والتباينات المناطقية والأجندات الموكلة إلى كل منها، علاوة على الاصطفافات والولاءات الشخصية، وكل هذه الأسباب والبواعث متراكمةٌ لدى المجموعات الإرهابية وكامنةٌ في دواخلها على مدار سنين الحرب، حيث خاض بعضها حروباً طاحنة ضد مثيلاتها قبل انتقالها إلى الشمال السوري.
وليس غريباً أن تضرب الانشقاقات والتصدعات والانقسامات بنية هذه المجموعة أو تلك تبعا للمستجدات الميدانية والتحولات التي تفرضها طبيعة الصراع مع الآخر كما حصل سابقا، وهو ما ستلعب عليه أنقرة؛ إذ ستعمل على خلط الأوراق المتعلقة بالمجموعات الإرهابية المتقاتلة، وتراقب مجريات الاقتتال بمنتهى الدقة والاهتمام، بل وستديرها عن بعد بما يحقق أهدافها، وتقتنص اللحظة المواتية لتدخل ساحة الاقتتال وتحسم الأمر لصالحها ولو بشكل مرحلي بعد أن تكون الحربُ بين المجموعات المسلحة قد أنهكت الجميع كونها حرب وجود بكل ما تنطوي عليه من حيثيات وأهداف، مما يسهل السيطرة على بعضها وإلغاء بعضها الآخر.
حينها تدعي أنقرة أنها حققت عدة أغراض منها الظهور أمام موسكو والمجتمع الدولي عموما بمظهر من كافح الإرهاب وقضى على ذراع تنظيم القاعدة في بلاد الشام، أي جبهة النصرة، وبما أن مراوغات أردوغان وتقلباته ونقضه للعهود ظلت سمة ملازمة لسلوكه السياسي، فليس بعيداً أو غريباً أن يعمل على إعادة تشكيل مجموعات مسلحة جديدة خاضعة أكثر من سابقاتها له ولأجنداته، وأن يستغل حالة التشظي التي تضرب أولئك الإرهابيين ويستثمرهم كمرتزقة في ساحات قتال أخرى كليبيا، ومن ثم يتخلص من الأعباء السياسية والاقتصادية والأمنية التي يرتبها بقاؤهم أو عودتهم إلى تركيا .
أنقرة تلوذ بالصمت وتكتفي بموقف المتفرج على حرب استنزاف قد يطول أمدها أو يقصر، ولكنها حرب تستغلها لمصالحها لأنها من دماء الآخرين، وفي جميع الأحوال فإن الإطار العام الذي يلف أجنحة الصراع وجغرافيته يؤذن بنهاية باتت تلوح في الأفق للمجموعات الإرهابية على الأرض السورية، مع ما يتضمن ذلك من مكاسب لسورية على الصعيدين الميداني والسياسي بعد أن يتم نزع الذرائع من يد أردوغان ومواجهته كمحتل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة