ترددت كثيراً قبل الكتابة فى موضوع غرق مركب «موكب الرسول» 21 سبتمبر 2016، حاملاً مئات المهاجرين غير الشرعيين
ترددت كثيراً قبل الكتابة فى موضوع غرق مركب «موكب الرسول» 21 سبتمبر 2016، حاملاً مئات المهاجرين غير الشرعيين، كالعادة انقسم المجتمع بين «ندابين» على من ماتوا هرباً من أحوال المعيشة، و«مطبلين» تجاوز بعضهم لحد المساس بحرمة الموتى، لذلك فضلت مخاطبة الأحياء، الذين ما زالوا على بر المحروسة، لكن عقولهم وقلوبهم فى أوروبا، يحلمون بعبور بحار الموت.. كسر حاجز الأزمات يتحقق بإتاحة الحقائق المتعلقة بإشكالياتها، دون ترغيب أو تنفير.
المسافة بين الإسكندرية وإيطاليا تتجاوز 1500 كم، بينما لا تزيد على 600 كم من تونس، ما يجعل التسلل من سواحلها أسرع وأأمن، رغم ذلك سيطرت تونس على «الهجرة»، وتراجعت بمعدلاتها بنسبة 88.5%؛ أعادت تنظيم تملك مراكب الصيد وسفن الركاب وإجراءات الرسو بالموانئ، أصدرت قانوناً شدد العقوبات، جرَّم كل عناصر المنظومة، الفاعلين والمشاركين، أعفى المبلغين، ووقعت اتفاقاً مع الاتحاد الأوروبى، يتعلق بالتأشيرات والهجرة المنظمة.. مصر تحاول إصدار تشريع مماثل منذ 2010!! لم تتوصل إليه وتقره الحكومة إلا فى نوفمبر 2015، راجعه مجلس الدولة، لكن البرلمان لم يضعه ضمن أولوياته، واستناداً لنفس المعايير، لم ير مبرراً لقطع إجازته، رغم فداحة كارثة رشيد، وخطورة تطور الظاهرة.. بدأت 2011 بتحرير 24 قضية تضم 1300 شاب، وانتهت فى النصف الأول لـ2016 بإحباط محاولة أكثر من 5000 شاب للهجرة، بخلاف ما يتم ضبطه وترحيله من الأجانب سنوياً.. والحقيقة المُرَّة ما كشفته المنظمة الدولية للهجرة عن أنه خلال الثلث الأول لـ2016، وصل 1815 مهاجراً مصرياً للسواحل الإيطالية بينهم 1147 طفلاً بنسبة «78٪»! ليتجاوز العدد الرسمى للأطفال المصريين المهاجرين 2500، والأعداد الحقيقية أكبر من ذلك بكثير، و90% من ضحايا الحادث الأخير من الأطفال.. مصر تحتل المرتبة الأولى بين بلدان هجرة الأطفال غير المصحوبين بذويهم لإيطاليا.. الهجرة إذن لا تتعلق بظروف المعيشة، وصعوبات الحياة، بقدر ما تتعلق بنظام التربية، ومقدار الولاء للوطن.. والمشكلة أن قانونى الهجرة والطفل الإيطاليين يحظران إعادة المهاجرين دون الـ18 لبلدهم الأصلى، ويلزمان الحكومة بإلحاقهم بمراكز إيواء حتى بلوغ السن، ثم تسليمهم أوراق إقامة قانونية.. واحد من كل خمسة قُصَّر فى دور الرعاية مصرى الجنسية، والباقى هاربون يسعون للعمل، بيانات الداخلية الإيطالية تؤكد انخراطهم المبكر فى أوساط الجريمة وتجارة المخدرات، لذلك يضغط بعض أعضاء البرلمان لتعديل القوانين وسد الثغرات، مما قد يهيئ المناخ لإثارة مصر للقضية.
«الهجرة» تحولت عالمياً، ومنذ بداية التسعينات إلى عمل منظم، تشرف عليه مافيا متخصصة، أرباحها السنوية 6 مليارات و800 مليون دولار، تتحايل على القوانين، ما يجعل مواجهتها دون أسلحة تشريعية مستحيلاً، وهى تقترن بجرائم أخرى.. التحقيقات التى أجرتها محكمة باليرمو الإيطالية 2014 أكدت أن المهاجرين الذين لا يستطيعون تأمين مصاريف رحلتهم، يتم قتلهم وبيع أعضائهم، وسجلت العديد من حالات الاعتداء الجنسى عليهم.. عصابات التهريب فى ليبيا تقتلهم عند الخلاف على المقابل، آخرهم ضحايا بنى وليد الـ30 أبريل الماضى، اختطاف داعش قرابة 1000 لاجئ، واتفاق الاتحاد الأوروبى وتركيا لإعادة المهاجرين لدولهم عبر أراضيها، نقلا مسار «الهجرة» إلى طريق مصر، ما ينبئ بالمزيد.. «الهجرة» بأنواعها الثلاثة توطنت بالمحروسة، فهى دولة مصدرة، خاصة كفر الشيخ والبحيرة والغربية، وأوكارها رشيد، أبوقير، السلوم، جمصة، قها.. وهى دولة عبور للاجئين الأفارقة خاصة السودان، إريتريا، والصومال، ومقصد نهائى لخمسة ملايين لاجئ من جنسيات مختلفة.. «الهجرة» قضية أمن قومى بامتياز، رغم تراجع أولويتها لدى مؤسساتنا.
الاتحاد الأوروبى يعانى من تدفق اللاجئين، اندساس العناصر الإرهابية بينهم أعطى للمشكلة بعداً أمنياً خطيراً، يفسر خشونة رد الفعل.. المنظمة الدولية للهجرة أكدت أن أعداد غرقى «المهاجرين» بالمتوسط فى طريقهم لأوروبا، ارتفعت ثلاثين ضعفاً 2015 عن مثيلاتها 2014، ورصدت قرابة 5000 غريق 2015/2016!! ظاهرة تستلزم التفسير.. البحرية الإيطالية تبنت عملية «Mare Nostrum» 2014، اعترضت بمقتضاها سفن المهاجرين بالمياه الدولية، وأنقذت قرابة 140 ألفاً، التكلفة الاقتصادية الباهظة فرضت استبدالها ببديلين؛ الأول: عملية «تريتون»، التى تديرها وكالة حماية الحدود الأوروبية «فرونتكس»، ويقتصر نشاطها على 50 كم من الساحل، والثانى: التحرك ضمن خطة الاتحاد «نا فور ميد» للوقف الشامل لـ«الهجرة»، مرحلتها الأولى بدأت يونيو 2015 بالمراقبة الجوية والبحرية للمياه الدولية لجمع المعلومات عن السفن التى تبحر من الساحل الأفريقى لشواطئ الاتحاد.. المرحلة الثانية سبتمبر 2015 استهدفت تفتيش السفن المشبوهة بالمياه الدولية، ونقل المهاجرين لمراكز إيواء مؤقتة، وإعادتهم لبلدانهم الأصلية، وتدمير السفن.. الثالثة الاستهداف العسكرى لمنظمى «الهجرة» وسفنهم، فى المياه الدولية أو الإقليمية للدول المصدرة، ووزير الداخلية الألمانى أقنع نظراءه من دول الاتحاد برفض تنفيذ أى برامج تتضمن الإنقاذ البحرى، لأن ذلك يمثل دعماً للمهربين.. المرحلتان الأخيرتان كان الاتحاد يعوِّل على تنفيذهما بموافقة الأمم المتحدة، لكن روسيا رفضت، وهددت باستخدام الفيتو، فشرع الاتحاد فى التنفيذ منذ أكتوبر 2015، وفوض القوة البحرية المكلفة بها باتخاذ كل الإجراءات الممكنة ضد المهربين ومراكبهم أياً كانت النتائج!! جيوفانى سالفى -المدعى العام الإيطالى الذى يتصدر حملة مكافحة «الهجرة»- حذر من أن تدمير السفن يدفع الشعوب لمعاداة الأوروبيين، والمنظمات غير الحكومية أجمعت على التنديد بالعملية باعتبارها ستؤدى فقط لتغيير الطرق البحرية التى يسلكها المهاجرون، ومنظمة «أطباء بلا حدود» حمَّلَت العملية مسئولية غرق 800 مهاجر ضحايا كارثة أبريل 2015.
■■■
لا يمكن أن نتناول الأزمة دون المرور على ملابسات الكارثة الأخيرة، لعلنا ننتبه لجوانب قصور، وربما فساد، تفرض التدخل.. المركب غادر ميناء الصيادين، ظل خارج الغاطس لأكثر من يومين، قيامه برحلة دولية يفرض الحصول على تصاريح إبحار وموافقات أمن عديدة «النقل البحرى، عمليات الجيش، شعبة العمليات البحرية، الأمن القومى، الأمن الوطنى، مخابرات حرس الحدود».. هل استوفى كل ذلك باشتراطاته القانونية؟!.. الضحايا تم تجميعهم بشقق مستأجرة قبل الحادث بعدة أيام، والزوارق قامت بنقلهم للمركب، بشكل مريب للعامة، فلماذا لم ترصدهم المباحث، وضباط البوغاز، ودوريات التأمين؟! الشرطة تعرف المهربين، وأماكنهم، وتتابع أنشطتهم، لكن القانون يقيدها.. أصحاب المراكب تُحرر محاضر سرقة، أو توكيلات لمراكبهم قبل السفر ليعفوا أنفسهم من المساءلة حال الغرق، وحالة المراكب لا تصلح للإبحار بعرض البحر، والحمولة تتجاوز أضعاف المقررة، وفى أغلب الحالات يكون خروجها مقترناً بقرار التخلص منها وشراء بديل أحدث، بأموال الضحايا.
كل الحقائق، وهواجس التساؤلات، تؤكد للحالمين أن عبور بحار الموت قد أضحى ضرباً من ضروب المستحيل.
* نقلاً عن "الوطن"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة