لم تكن مفاجأة بالنسبة إليّ نتيجة التصويت على قانون العدالة ضد الإرهاب (جاستا)، وأعتقد أن من تفاجأ بالنتيجة من كوكب آخر معزول عن العالم
لم تكن مفاجأة بالنسبة إليّ نتيجة التصويت على قانون العدالة ضد الإرهاب (جاستا)، وأعتقد أن من تفاجأ بالنتيجة من كوكب آخر معزول عن العالم، ولعله يعيش في واقع خيالي، على غرار القصص والروايات التي تنتهي بنهايات الحصان الأبيض، أو أنه يجهل تماماً السياسة الأميركية.
الدلائل كانت واضحة، فالمشروع مطروح منذ العام 2009، ومن الواضح أنه تم التخطيط جيداً لطرحه قبيل الانتخابات، لابتزاز ما يمكن ابتزازهم من النواب وأعضاء الكونغرس.
تلك قصة محكية وليست بجديدة، لكن الجديد هو تجاهل المشروع خلال الأعوام الماضية والاستيقاظ أخيراً، ومن ثم الخروج بثورة مبررة خلاصتها ساذجة، على غرار سحب الاستثمارات السعودية أو مقاطعة البضائع الأميركية، ومثل ذلك من مطالب ورد بعضها على لسان من يعتبرون أنفسهم محللين سياسيين ظهروا على القنوات الفضائية.
المؤلم في الموضوع أن دولة مثل السعودية تأتي في طليعة الدول التي تحارب الإرهاب، وبذلت في سبيل محاربته الكثير، سواء من دماء أبنائها أم من الجهد والمال، وبعد كل ذلك تقف اليوم موقف المتهم بالإرهاب!
ذلك مشهد غير طبيعي، ومنطقياً غير مبرر، لكن السياسة لا تخضع للمنطق وتبرر كل شيء، وهذا ما يجب علينا اليوم أن نتعامل من خلاله. فإشكال «جاستا» اليوم لا يتعلق بالسعودية فقط، بل هو قانون ينم عن تغيير شامل في قواعد السياسة الدولية، وبالتالي لا يجب أن نتعامل معه وكأن الأمر انتهى و«وقعت الواقعة»، فلا يزال هناك الكثير والكثير لما يمكن عمله.
بداية لنتفق على شيء واحد، وهو أنه لا يوجد شيء يدين السعودية بصفتها دولة، فهناك تحقيق وطني أميركي أثبت براءتها من أية اتهامات، وبخلاف ذلك، جميعنا يتذكر زيارة وزير الخارجية الراحل الأمير سعود الفيصل في أعقاب أحداث 11 (أيلول) سبتمبر، ولقاءه الرئيس جورج بوش آنذاك، وتأكيده أن السعودية على استعداد للتعامل مع أية أدلة تدينها إن وُجدت، ووضع الحقائق كافة أمام الرئيس الأميركي، تلك المعطيات تقودنا إلى أن «جاستا» لا علاقة له بالقوانين الدولية ولا بالإرهاب، بل هو قانون ابتزاز في المقام الأول، يضاف إلى قائمة أدوات الابتزاز التي تملكها واشنطن، وتبدو واضحة من خلال التلاعب بملفات المنطقة.
وطالما الأمر كذلك فنحن على ثقة ببراءة المملكة من أية تهمة، وبالتالي لا يوجد هناك ما نخشاه ما لم يتم تمكينهم من ذلك وإتاحة الفرصة لهم، فالمزاج الشعبي في السعودية يتجه إلى التصعيد، وهذا بحد ذاته إحساس وشعور بالمسؤولية، وغيرة على وطنهم، وهو رد فعل محمود ولا غبار عليه، لكن في حقيقة الأمر المزاج الشعبي ليس كافياً لبناء موقف من الولايات المتحدة الأميركية، فالأمر يتطلب حكمة وهدوءاً وروية، بنفس القدر الذي يتطلب ألا يكون هناك شعور انهزامي، فهي ليست نهاية العالم، وعلينا أن ندرك أن اللعبة لعبة محامين أكثر من أن تكون لعبة سياسية، وهذا يعني أننا سننفق أموالاً في قضايا سيتم رفعها، لكنهم في المقابل سينفقون من جهتهم مثلما ننفق، أضف إلى ذلك أن جهودهم تلك من الممكن أن تذهب أدراج الرياح، فتكفي قضية واحدة يتم التصدي لها لإسقاط القضايا كافة، وهنا حجر الزاوية، فالمطالبة بسحب الاستثمارات السعودية والتصعيد لن يخدمنا في هذه المرحلة، بل على العكس لا بد من أن نحضر هناك وبشكل مكثف، وعلينا أن ندرك أن ترك الساحة وتوتير العلاقات مع واشنطن من شأنه أن يمنحهم الفرصة لاختراق أي فريق محاماة تتم الاستعانة به لمواجهة تلك القضايا، بل الأخطر أن يتم منحهم الفرصة للقيام بإجراءات لتعديل القانون، فهو مطاط ومن الممكن أن يشمل أشياء أخرى.
إذاً لا يجب الاستعجال، لئلا يصبح الثمن مضاعفاً، وأي رد فعل يجب أن يكون مدروساً بعناية، فموقفنا ليس ضعيفاً، والأدلة شاهدة ونواياهم واضحة، فهم لا يريدون محاكمة السعودية بصفتها حكومة، بل يتجهون إلى محاكمة المجتمع السعودي، إذ إنهم يقرون بأن الحكومة لم تدعم الإرهاب، لكنهم يرون أن المجتمع يشكّل بيئة خصبة تؤهل للوصول إلى ذلك الفكر.
وبطبيعة الحال هم لا يرون دعوات التسامح من هيئة كبار العلماء ولا الجهود التي تبذلها السعودية، ولا الخطوات التي اتخذتها للتصدي للإرهاب، هم يستشهدون بفكر أولئك المشايخ الذين أزكوا الإرهاب بالدعوة للتوجه إلى مواقع القتال، يستهدفون ذلك الشيخ الذي حرض وعندما علم بذهاب ابنه إلى مناطق الصراع هرول إلى السلطات لمنعه، يستهدفون ذلك الذي «رأى الخلافة بأم عينه وأرعد وأزبد وهو يدعو إلى النفير»، وأيضاً يستهدفون ذلك الشيخ الذي يكفّر ويحرم، وفريق من حوله يصفقون له «مهللين»، ذلك ما ستتم محاكمته، وهذا ما سندفع ثمنه.
أدوات المواجهة موجودة، كل ما يتطلبه الأمر الهدوء والمعاملة بالمثل، فهناك قضايا حول العالم بالإمكان إثارتها وتسليط الضوء عليها، من السهولة أن تدان بها الولايات المتحدة، وما أكثرها!
أما السعودية فلا خوف عليها، فهي لم تنحنِ أمام ظروف أشد ضراوة، وبالتالي لن تنحني أمام بضعة محامين يبحثون عن حفنة دولارات.
* نقلاً عن "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة