مكتبات نادرة على الرصيف وأخرى تموت في البيوت (2- 3)
إحسان عبدالقدوس وخيري شلبي وإبراهيم أصلان.. إرث عائلي
المتاحف التي ظهرت لمشاهير المبدعين بعيدا عن منازلهم فشلت في جذب الناس عكس منزل عبدالحليم حافظ الذي ما زال له جمهور إلى الآن.
على الرغم من أن مكتبات كثيرة لرموز ثقافية معروفة انتهت إلى البيع بـ"القطعة" على أرصفة وبسطات الكتب المنتشرة في مناطق كثيرة، فإن هناك مكتبات لمشاهير آخرين نجت من هذا المصير التعس، لكنها لا تحظى بفرص الاستفادة منها.
من أبرز تلك المكتبات، مكتبة الروائي المصري الراحل إبراهيم أصلان صاحب رواية "مالك الحزين" التي تحولت لعلامة سينمائية مصرية مميزة من خلال فيلم "الكيت كات".
تبدو مكتبة أصلان، أكثر حظا من غيرها، كما يروي نجله الكاتب الصحفي هشام أصلان لـ"العين الإخبارية". يقول: "فشلت في حصر محتوياتها أو عد كتبها، لأنها ما زالت حبيسة الكراتين بعد أن اضطرت الأسرة لترك منزلها في إمبابة والانتقال إلى منزل آخر بحي المقطم بالقاهرة".
ويضيف هشام، أن المكتبة ضخمة وتحتاج إلى شهور لفرزها وتصنيفها وهو ما يعجز عن فعله بسبب ضيق الوقت والجهد الكبير الذي يتطلبه هذا العمل الذي يحتاج إلى فريق محترف، مشيرا إلى رغبته في الاحتفاظ ببعض من كتب والده في مكتبته الخاصة لأنها تضم طبعات نادرة.
ورغم هذه الأمنية، فإن هشام أصلان لا يخفي خوفه من احتمال تلف بعض الكتب أو فقدها بسبب عدم صلاحية هذه الكراتين للتخزين، وهناك خوف أكبر من أن تقع فريسة للفئران والحشرات، لذا أفصح عن تفكيره في التبرع بالمكتبة لمكتبة الإسكندرية أو أي جامعة، ومع ذلك ما زال مترددا خوفا من أن يكون التبرع "شكليا" فقط بلا استفادة حقيقية من المكتبة.
ويقول هشام أصلان: "للأسف منظومة العمل الثقافي بفروعه لا علاقة لها بالشارع، فأخشى أن تكون هذه المؤسسات مجرد مكان للتخزين بديلا للمنزل".
ويؤكد هشام أنه كان يتمنى الاحتفاظ بمكتبة والده كاملة لولا عدم وجود مكان لها بمنزله أو منزل الأسرة، موضحا أنها مكتبة رفيعة المستوى وتم تكوينها بعناية فائقة، وكانت مصدرا رئيسيا لتثقيف عدد من الأصدقاء.
إرث عائلي
نموذج آخر قدمه أبناء "وتد" الرواية في مصر، الراحل خيري شلبي، الذين قرروا الاحتفاظ بمكتبته بمنزل العائلة في حي المعادي، ورعايتها من منطلق أنها إرثهم الوحيد.
تقول إيمان خيري، ابنة الكاتب الراحل خيري شلبي، إن جدران المنزل بالكامل شكلت مكتبة أبي بالإضافة إلى غرفة مكتبه، ومساحة المنزل التي تبلغ نحو 250 مترا.
تحتوي المكتبة على نحو 10 آلاف كتاب تشمل مئات الروايات، ومعظمها كتب قديمة من أبرزها مسرحيات مصطفى كامل التي نشر خيري شلبي تحقيقا لها، كما توجد نسخة أصلية من تقرير النائب العام محمد نور الذي تولى التحقيق مع طه حسين خلال أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" عام 1926 وهي التي تولى شلبي نشرها تحت عنوان "وثيقة محاكمة طه حسين".
وهناك أعمال مهداة من مؤلفيها إلى الراحل، بعضها لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ بخلاف كتاب الستينيات في مصر والعالم العربي وأجيال متواصلة من المبدعين كانوا على صلة مباشرة بالراحل.
وتوضح إيمان أن المكتبة الأصلية كانت أضخم بكثير، إلا أن والدها استغنى عن أجزاء منها، كما تبرع قبل وفاته بجزء آخر لمركز شباب قلين بمحافظة كفر الشيخ (مسقط رأسه) واحتفظ ببقية الكتب.
ولا ترى في الحفاظ على المكتبة ضمن محيط العائلة أي احتكار لثروة الراحل الفكرية، قائلة: "نرغب في أن يبقى المنزل كما هو وبنفس ترتيب الكتب وتنظيمها، وهو متاح للجميع للزيارة وليس الاستعارة، لأن ذلك يأتي امتثالا لرغبة والدها في أن تظل المكتبة موجودة للأبناء والأحفاد ولا نفرط في كتاب واحد منها، لأن "هذا هو الإرث الحقيقي".
ومن مكتبة خيري شلبي لمكتبة الكاتب الكبير الراحل إحسان عبدالقدوس لم يتغير الحال كثيرا، إذ أصرت أسرة عبدالقدوس على الاحتفاظ بالمكتبة التي تضم مؤلفاته كاملة، والبالغ عددها 60 كتابا ورواية، ومئات الكتب في الأدب الإنجليزي، والكتب المهداة له وبتوقيع أصدقائه، مثل كتب محمد حسنين هيكل وعبدالرحمن الشرقاوي وكتاب للرئيس السادات، وكتب كثيرة مهمة ونادرة، بالإضافة إلى التراث الخاص بجدته فاطمة اليوسف الشهيرة بـ"روز اليوسف".
يقول محمد عبدالقدوس ابن الكاتب الراحل: "إن المكتبة تأسست داخل منزل العائلة في الزمالك، وتضم كتبه وكل مقتنياته الخاصة من الرسائل والصور النادرة ولا تزال كما هي منذ أن رحل".
لا يؤمن محمد عبدالقدوس بفكرة التبرع بالمكتبة الخاصة بوالده لأية جهة، قائلا: "المكتبة جزء من تراثنا وبالتالي لا يجوز نزعها من موضعها الأصلي، فالمتاحف التي ظهرت لمشاهير المبدعين بعيدا عن منازلهم فشلت في جذب الناس عكس منزل الفنان عبدالحليم حافظ الذي ما زال له جمهور إلى الآن".
إهداء المقتنيات
لعل الجانب الأهم في فقدان المكتبات النادرة التي يتركها المبدعون لورثتهم يتعلق بغياب الآليات التي تمكن الدولة من الشراء أو استقبال المكتبات المهداة، حيث تغيب في مصر التشريعات والمعايير الخاصة بالمكتبات العامة الخاصة، وتتوزع مسؤولية المكتبات في مصر بين البلديات والإدارات المحلية ووزارة الثقافة، ونجد أن حماية تراث المثقفين والثروات الفكرية في مصر تتعرض للهلاك وتصبح من نصيب أرصفة الشارع نتيجة لذلك.
يقول هشام عزمي، رئيس دار الكتب والوثائق القومية، لـ"العين الإخبارية": لا توجد في مصر قوانين أو تشريعات ملزمة للأفراد أو لأسرهم بعد وفاتهم بإهداء المقتنيات، لكن في بعض الحالات الاستثنائية يكون من حق المكتبة الوطنية الحصول على بعض المقتنيات الخاصة تحديدا المخطوطات والكتب النادرة والأثرية التي تمثل أهمية تاريخية بالنسبة لمصر، مقابل تعويض مالي تدفعه دار الكتب لحائز المقتنيات وفقا لما نص عليه قانون المخطوطات، وهو ما قامت دار الكتب والوثائق القومية بتطبيقه مثلا في حالة مكتبة الفنان الراحل حسن كامي".
ويضيف عزمي: "في حالة مكتبة كامي كانت المقتنيات متاحة للبيع من خلال مكتبة لبيع الكتب ولم تكن تمثل مجموعات شخصية وهي في جميع الأحوال ليست إهداء بالمعنى المقصود هنا".
ومن ناحية أخرى، تقتني دار الكتب مجموعة كبيرة من المكتبات المهداة من المشاهير والأدباء والمفكرين المصريين الذين أثروا الحياة الفكرية والثقافية في مصر، ويبلغ عددها 17 مكتبة، مثل مكتبات عباس محمود العقاد، وأحمد تيمور باشا وأحمد زكي باشا وعائشة عبدالرحمن، وعبدالرحمن الرافعي ومحمود أمين العالم.
ويرى عزمي أن الإهداء يعد من أهم أساليب تنمية المجموعات في المكتبات على اختلاف أنواعها، خاصة حينما تمثل المجموعات المهداة أهمية تاريخية أو قيمة أثرية لا تتوافر من خلال مصادر التزويد الأخرى، ولا يمكن للمكتبة الحصول عليها إلا من خلال الإهداء.
ويوضح رئيس دار الكتب أن الإهداء في حالة الشخصيات العامة لا يقتصر في العادة على مجموعات للكتب، ولكنه يمتد ليشمل الأوراق الخاصة والمذكرات الشخصية وكذلك المقتنيات والمتعلقات الشخصية مثل النظارات والساعات وحتى الملابس، لافتا إلى أن الإهداء في هذه الحالة هو عمل تطوعي يقوم به الشخص في حياته أو تقوم به أسرته عنه بعد وفاته.
أما فيما يتعلق بالإهداء في دار الكتب المصرية والوثائق القومية، يقول عزمي: "ترحب الدار دائما بقبول الإهداءات من الشخصيات العامة والمشاهير، وحرصت الدار منذ فترة طويلة على جذب مجموعة مهمة من المقتنيات المهداة من هؤلاء من خلال التواصل المباشر معهم أو أسرهم".
ويشير إلى أن دار الكتب والوثائق القومية في مصر استحدثت قاعة خاصة بالمجموعات الخاصة والمهداة، وذلك منذ عام 1998 بافتتاح القاعة الملكية التي تضم عددا من المكتبات الخاصة بالأسرة العلوية، وتضم 28 مكتبة من مكتبات الملوك والأمراء من أسرة محمد علي التي آلت ملكيتها إلى الحكومة المصرية بعد ثورة يوليو/تموز 1952، ومنها مكتبة قصر عابدين ومكتبة الملكة فريدة ومكتبة إسماعيل مختار وعادل عياد وغيرهم، وهذه المكتبات تحتوي على مجموعات نادرة من الكتب العربية والأجنبية والخرائط وألبومات الصور.
ويؤكد عزمي أن دار الكتب والوثائق القومية ما زالت تعمل على إضافة المزيد من المجموعات المهداة، كان آخرها مكتبة المخرج الكبير الراحل صلاح أبوسيف، التي يتم تجهيزها الآن تمهيدا لافتتاحها قريبا.
ويختتم حديثه قائلا: "يظل إقناع الشخصيات العامة والمشاهير وأسرهم بأن إهداء مقتنياتهم هو السبيل الأفضل للحفاظ عليها وتنظيمها وإتاحتها للباحثين والدارسين بصفة خاصة وللأجيال المتعاقبة بصفة عامة، باعتبارها جزءا مهما من تراث هذا الوطن".
ويتيح القانون في بعض الحالات الحصول على مقتنيات عائلية وأوراق تتركها الشخصيات العامة في صورة مذكرات، ففي عام 1963 صدر قرار جمهوري يبيح لدار الوثائق المصرية أن تنتزع ملكية مذكرات سياسية مهمة وذات قيمة تاريخية مقابل تعويض مناسب للورثة، وتطبيقاً لهذا القرار حصلت دار الوثائق المصرية على مذكرات الزعيم الراحل سعد زغلول التي كانت مودعة تحت الحراسة القضائية بإحدى خزائن بنك مصر، انتظاراً للحكم في عدد من الدعاوى القضائية التي أقامها الورثة الذين تنازعوا بشأن صاحب الحق منهم في الحصول عليها بعد وفاة زوجته صفية زغلول عام 1947.
وفي عام 2014 اقترح الناقد نبيل فرج تعديل قانون حقوق الملكية الفكرية، بحيث يقتصر حق الورثة على الحقوق المادية، بينما يظل الحق الأدبي في نشر الكتاب مكفولاً للدولة حتى لا يسيء ورثة المفكرين استغلال حقوق الملكية في حجب ما كتبه المورث أو مصادرة أفكاره.