فرج فودة.. رصاص الكلمة أمام رصاص البندقية؟ (بروفايل)
في أحد أحياء القاهرة، وُلد فرج فودة في 20 أغسطس/ آب عام 1945، ليكون شاهداً على مرحلة مفصلية في تاريخ مصر والمنطقة العربية. وبدأ رحلة لم يكن يعلم حينها أنها ستضعه في مواجهة مباشرة مع قوى التطرف والتعصب.
حصل فودة على درجة البكالوريوس ثم الدكتوراه في العلوم الزراعية. لكنه لم يكن مجرد أكاديمي عادي؛ فبينما كان يعمل في مجال تخصصه، كانت عيونه تراقب التغيرات الاجتماعية والسياسية حوله بعين المثقف الذي يسعى لفهم أعمق للواقع. كانت هذه الملاحظات هي ما دفعه ليتجه نحو الكتابة والتأليف.
عندما بدأ فودة في الكتابة، كان يدرك أن ما يقوم به ليس مجرد تسجيل لحظات من التاريخ أو عرض لأفكار مجردة. لقد كان يسعى لفهم التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري، خاصة مع صعود التيارات الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات. بدأ يشعر بأن هذه التيارات، التي تُحكم قبضتها على مفاصل الدولة والمجتمع، تسعى لفرض أفكارها على الجميع، مما يشكل خطرًا على حرية الفكر والتعبير.
تقول سمر فرج فودة: "لقد تربيت وتعلمت على يد أبي أن أقصر السبل إلى حل المشاكل هو المواجهة والوضوح، وقد تكون المواجهة قاسية لكنها أرحم من الهروب، وقد يكون الوضوح مؤلما، لكنه أقل ضررا من التجاهل".
وتضيف ابنة الكاتب الراحل: "الله يرحم أبي، كان يوم استشهاده على يد المتطرفين صباح يوم العيد، فأطلقوا عليه (أضحية العيد)، واختاروا هذا اليوم خصيصاً ليحرقوا قلوبنا عليه أكثر".
أفكار تحت التهديد
كان أول ما أثار انتباه فودة هو محاولة هذه الجماعات إعادة تشكيل الهوية المصرية وفقًا لرؤيتها الخاصة للإسلام. أدرك أن هذا التوجه لا يتوقف عند حدود الدعوة الدينية، بل يسعى إلى السيطرة على مؤسسات الدولة والقوانين والثقافة العامة. لم يكن فودة ضد الدين، بل كان ضد استغلاله كأداة للسلطة والسيطرة.
في كتابه "الحقيقة الغائبة"، قدّم فودة نقدًا جريئًا لفكرة الدولة الإسلامية، التي يروج لها الإسلاميون.
رأى فوده أن هذه الفكرة ليست مجرد تحريف لتاريخ الإسلام، بل هي أيضًا تهديد للتنوع الثقافي والفكري في المجتمع. أوضح أن تاريخ الخلافة الإسلامية لم يكن كما يُروج له، بل كان مليئًا بالصراعات والفتن والتنازع على السلطة. ليستنتج ضرورة الدولة الحديثة يجب أن تكون دولة مدنية، تفصل بين الدين والسياسة، وتحترم حقوق الأفراد والمجتمعات.
لكن جرأة فودة لم تتوقف عند هذا الحد. ففي كتابه "النذير"، وجه نقدًا لاذعًا لجماعة الإخوان ، واصفًا إياهم بأنهم يسعون إلى فرض وصايتهم على المجتمع باسم الدين. كان فودة يدرك جيدًا أن أفكاره قد تُعرضه للخطر، لكنه كان مقتنعًا بأن الصمت أمام التطرف ليس خيارًا. لقد اختار أن يكون الصوت الذي يكشف زيف تلك الادعاءات، حتى لو كلفه ذلك حياته.
في ساحات المعارك
في ساحة الفكر، لم يكن فودة وحيدًا، بل وجد نفسه في مواجهة شخصيات دينية بارزة مثل الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ عمر عبدالرحمن. كانت هذه المواجهات بمثابة معارك فكرية حامية الوطيس، تجسد الصراع بين رؤيتين مختلفتين لمستقبل مصر.
معركة مع الغزالي
كانت المواجهة مع الغزالي إحدى أبرز محطات فودة الفكرية. في مناظرة شهيرة جرت بمعرض الكتاب في القاهرة عام 1992، تصدى فودة لأفكار الغزالي حول الخلافة الإسلامية، مبينًا أن الدعوة إلى إعادة إحيائها هي محاولة للعودة إلى زمن مضى، بدلاً من التطلع إلى المستقبل. اتهم الغزالي فودة بالكفر والزندقة، لكنه لم يتراجع، بل واصل الدفاع عن ضرورة الدولة المدنية التي تحترم حقوق جميع المواطنين.
المواجهة مع الشعراوي
من بين المواجهات البارزة بين فودة والشعراوي كانت حول كتاب "الحقيقة الغائبة". رأى الشيخ الشعراوي في هذه الأفكار تعديًا على العقيدة الإسلامية وانتقادًا صريحًا للتراث الديني. وفي خطبته الشهيرة، هاجم الشعراوي فودة بشدة، واصفًا إياه بأنه "مفكر مزيف" وأن أفكاره لا تمثل إلا انحرافًا عن الإسلام.
في وسائل الإعلام، كانت هناك تراشقات غير مباشرة بين الشعراوي وفوده، حيث كان الشعراوي يستخدم المنابر الإعلامية للترويج لأفكاره والدفاع عن ضرورة تطبيق الشريعة، بينما كان فودة يستخدم مقالاته وكتبه لتفنيد هذه الأفكار والدعوة إلى الحفاظ على الدولة المدنية.
معركة مع دعاة تطبيق الشريعة
لم يكن صراع فودة مقتصرًا على شخصيات بعينها، بل امتد ليشمل التيار الإسلامي بأكمله، الذي كان يسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية كنظام قانوني شامل.
قدم فودة تحليلًا نقديًا لدعوات تطبيق الشريعة، مشيرًا إلى أن التجارب التاريخية لهذه القوانين كانت مليئة بالتجاوزات والانتهاكات. رأى أن تطبيق الشريعة يعني فرض تفسير محدد للدين على المجتمع بأسره، وهو ما يتعارض مع قيم الحرية والتعددية التي يدافع عنها.
المواجهة مع حزب العمل والإخوان
كان لفودة أيضًا دور كبير في مواجهة التحالف بين حزب العمل، الذي تحول من حزب يساري إلى حزب ذي توجه إسلامي، وبين جماعة الإخوان المسلمين. في كتاباته، فضح فودة هذا التحالف، مشيرًا إلى أن الحزب تخلى عن مبادئه الاشتراكية القديمة لصالح أجندة إسلامية متشددة. رأى أن هذا التحالف هو محاولة لفرض رؤية ضيقة للدين على المجتمع، وأنه يمثل خطرًا على مدنية الدولة.
كلمة أخيرة.. لم تنتهِ
لم تكن معارك فودة الفكرية مجرد سجالات أكاديمية، بل كانت لها نتائج ملموسة وخطيرة. ففي يونيو/ حزيران 1992، دفع فرج فودة حياته ثمنًا لأفكاره، بعد أن اغتاله متطرفون. كان اغتياله نتيجة للتحريض العلني الذي مارسته التيارات الإسلامية ضده، لكن موته لم يكن نهاية لرسالته. بل على العكس، أصبح فودة رمزًا للمقاومة الفكرية ضد التطرف الديني، وأصبحت كتبه وأفكاره منارة للباحثين عن الحقيقة والحرية.
رغم مرور السنوات، لا تزال أفكار فرج فودة حية في النقاشات حول العلاقة بين الدين والدولة في العالم العربي.
كان فوده يؤمن بأن الحل لا يكمن في القمع أو العنف، بل في الحوار والتفكير النقدي. كانت حياته القصيرة مثالًا حيًا على أن الكلمة الحرة قد تكون أقوى من أي سلاح، وأن الحرية هي قيمة لا تُقدَّر بثمن.
aXA6IDE4LjE4OC4yMDUuOTUg جزيرة ام اند امز