تكشف الأنباء الواردة من فيينا أن المحادثات الجارية هناك حول الملف النووي الإيراني، في جولتها الثامنة، أمس، دخلت مرحلة حرجة.
فإما أن تنجح المفاوضات في التوصل إلى تفاهم حول كيفية إحياء الاتفاق النووي، وإما تنهار، بما يعنيه ذلك من احتمالات سلبية، مع أن السلوك الدبلوماسي والإعلامي للطرفين الأمريكي والإيراني يؤكد أن لكل منهما رغبة في إنجاح هذه المفاوضات، غير أن مفهوم "نجاح المفاوضات" يختلف لدى كل منهما، إذ يعني بالنسبة لواشنطن أمورا عدة، أهمها ألا تملك إيران أسلحة نووية حالياً أو مستقبلاً.. وأن يكون إحياء الاتفاق النووي مدخلا للاستقرار الإقليمي وحافزا كافيا لكي ترفع طهران يدها عن بعض الملفات وتوقف تدخلاتها في شؤون عدد من الدول العربية.. وقبل كل ذلك، ضمان عدم تعرض إسرائيل لأي تهديد مصدره إيران أو أذرعها المنتشرة في المنطقة.
ويبدو أن إدارة الرئيس "بايدن" تعي جيداً صعوبة تحقيق كل هذه الأهداف بمجرد التفاوض مع إيران، لكنها تدرك أيضاً حتمية هذا التفاوض، وأن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، الموقع عام 2015، منح طهران فرصة ذهبية لاستئناف أنشطتها النووية دون رقابة أو قيود.
والأهم من كل ذلك، يعلم المفاوض الأمريكي أن كل يوم يمر دون إنجاز اتفاق، يعني إضافة جديدة لقدرات إيران النووية، وربما لرصيدها الفعلي من اليورانيوم المخصّب بنسبة عالية.
لذلك، ورغم ما تعلنه إدارة "بايدن" من حين إلى آخر من سقف مرتفع للمطالب الأمريكية في المفاوضات الجارية، فإنها تعلم أن تلك المطالب لا يمكن تحقيقها بسهولة، أو على الأقل ليست كلها، وليس في المدى القصير.. ذلك لأنها تفاوض إيران تحت ضغوط عدة، أهمها عامل الوقت الذي يصب في اتجاه مزيد من الأنشطة النووية الإيرانية.
وليس أقل من ذلك أهمية، معطياتُ الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث تَبْرَع طهران في توظيف أذرعها للاستفادة منها في مد نفوذها لخلخلة الأوضاع القائمة وتهديد الاستقرار.
في المقابل، لا تسير إيران في المسار التفاوضي الجاري بأريحية، وإنما تحت وطأة ضغوط ومقتضيات شديدة التأثير على قرارها، داخلياً وخارجياً.
فالاقتصاد الإيراني، الذي يعاني اختلالاتٍ هيكلية، صار في مأزق حقيقي بفعل العقوبات المفروضة أمريكياً. وفي وقت كبّدت أزمة كوفيد-19 أقوى اقتصادات العالم خسائر فادحة، فإن الاقتصاد الإيراني لم يكن أصلاً في وضع يسمح للحكومة الإيرانية بالمرة بتجاوز تلك الأزمة.
وكما تستفيد إيران من مرور الوقت في توسيع أنشطتها النووية، فهي أيضاً تتلهف بشدة إلى اليوم الذي تتخلص فيه من عبء العقوبات الاقتصادية وتستعيد علاقاتها التجارية مع العالم، وتفتح الباب مجدداً أمام الاستثمارات الأجنبية في مختلف المجالات، خصوصاً في مجالَي البنية التحتية والقطاع الخدمي، اللذين صارت حالتهما المتردّية سبباً مباشراً في تململ واستياء الإيرانيين، وبالتالي مصدر صداع يومي لدوائر الحكم هناك بمختلف مستوياتها.
هذا بخلاف الالتزامات القائمة والمستجدة، التي فرضتها طهران على نفسها باتساع نطاق تدخلاتها في المنطقة، بما في ذلك أعباء الانخراط المباشر في بعض الأزمات مثل اليمن، وغير المباشر بالتسليح والتمويل، كما بالنسبة لـ"الحشد الشعبي" في العراق، وبالطبع رعاية وتمويل "حزب الله" في لبنان.
ليست هذه كل العوامل والقيود المفروضة على الطرفين في الموقف الراهن، فهناك أيضاً الآثار السلبية الثقيلة، التي تركتها تجربة الاتفاق النووي الأصلي -اتفاق 2015- على المفاوضات الحالية.. فربما الشيء الوحيد الذي يكاد الأمريكيون والإيرانيون يتفقون فيه ضمنياً، هو التوجس من تكرار إبرام اتفاق لا يكون مثالياً لأي منهما، سرعان ما يتم توقف العمل به.
لذلك فإن السبب الجوهري للتعثر وصعوبة المسار التفاوضي الحالي في فيينا، هو توجس كلا الطرفين من أي ثغرات أو نواقص في الاتفاق أو التفاهم الجديد المحتمل.. وإن كان هذا لا يعني بالضرورة أنه سيكون اتفاقاً مثالياً أو يلبي المعايير والضمانات المطلوبة للحيلولة دون تفاقم الخطر النووي الإيراني، خصوصاً بعد أن صار هذا الخطر شديد القرب ويكاد يكون قائماً بالفعل بعد أن وصلت إيران بمستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60%، وهو مستوى لم تصل إليه أي دولة غير نووية في العالم.
في ظل هذا الوضع المُعقّد والضغوط المتداخلة على الجانبين، فإن التصريحات المتفائلة، التي بدأت تظهر من أروقة المفاوضات، تصبح مبررة، فربما بالفعل يتم إبرام اتفاق في وقت قريب جداً.. لكنها في الوقت ذاته قد لا تعني شيئاً، وتتعثر المفاوضات مجدداً.. فحتى وإن صدق الكلام المتفائل، فلا يعني بالضرورة اتفاقاً جيداً لأي طرف.. كما أن تعطُّل المفاوضات أو توقفها ليست نتيجته المؤكدة انفجار الموقف أو أن الحرب صارت حتمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة