سيدة الجزائر الأولى.. تقليد غائب منذ 3 عقود و6 رؤساء "عازبون سياسياً"
"وراء كل رئيس جزائري زوجة مجهولة"، هكذا ظهر معظم الرؤساء الذين حكموا الجزائر طوال استقلالها، محاطين بكبار المسؤولين والحرس الشخصي وقوات الأمن، دون أن تكون زوجاتهم من بين الحاضرين.
وباستثناء رئيسين فقط، لم يتعرف الجزائريون على زيجات بقية الرؤساء الـ6 بمن فيهم الحالي عبد المجيد تبون، وظل معها مصطلح "سيدة الجزائر الأولى" غائباً عن المشهدين السياسي والإعلامي، وبقيت تلك الزوجات في منازلهن كغيرهن من سيدات الجزائر بعيدات عن الأضواء.
وتعاقب على حكم الجزائر منذ استقلالها عام 1962، 8 رؤساء، لم تظهر إلا زوجات اثنين من الرؤساء فقط، لا يُعرف إن كسرتا تقليداً محلياً، أو أن ابتعاد بقية زوجات رؤساء الجزائر عن المشهد هو "التقليد والعرف" في حد ذاته.
أنيسة بومدين
في 19 يونيو/حزيران 1965، قاد وزير الدفاع الجزائري الأسبق هواري بومدين انقلاباً على أول رئيس للجزائر وهو أحمد بن بلة، لتشهد البلاد بعد ذلك مرحلة مختلفة ومفصلية عرفت نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وتعرف الجزائريون عن قرب على شخصية هواري بومدين العسكرية والثورية بحكم مشاركته في الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي.
كانت شخصية مختلفة، قوية وحازمة، وبملامح وجه قاسية، وتداول معها الجزائريون قصص تمكن الراحل هواري بومدين من مسك زمام الأمور وتحصين حكمه بقرارات جريئة وشخصيات تصنف من "الوزن الثقيل".
ومع الأعوام الأولى لاستقلال البلاد، لم يسمع أو يتعود الجزائريون على مصطلح "سيدة الجزائر الأولى" أو رؤية زوجة رئيسهم، حتى إنها كانت ربما "من المحرم الحديث عنها".
كان حينها هواري بومدين الملقب بـ"الموسطاش" (الشوارب) رئيساً أعزب، أنسته "هموم الحكم" في إكمال نصف دينه، أو كان ينتظر الوقت المناسب ليدخل إلى "قفص الزواج الذهبي" كما دخل إلى قصر "المرادية" الرئاسي.
انتظر بومدين 8 أعوام من بدايات حكمه ليختار شريكه حياته، وكان ذلك عام 1973، لكنه لم ينتظر طويلا ليخرجها من كواليس بيت الزوجية إلى عالم السياسة، لترافق مسيرة بومدين 5 أعوام وهو في أوج عطائه.
ظهرت أنيسة بومدين واسمها الأصلي أنيسة المنصلي للمرة الأولى عام 1973، خلال استقبال بومدين نظيره من الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) موبوتو سيسيسيكو.
ليخرج معها إلى العلن أيضا وللمرة الأولى مصطلح "سيدة الجزائر الأولى" التي رافقته في جولاته الدولية واستقباله لقادة الدول، وحرصت خلالها على ارتداء الأزياء التقليدية النسوية الجزائرية، خصوصاً "القفطان والكاراكو العاصمي".
درست "أنيسة" الحقوق في جامعة الجزائر وأكملت دراسة العام الأخير بجامعة "السوربون" في العاصمة الفرنسية باريس، وكانت البنت الوحيدة لعائلتها التي كانت من أغنى العائلات الجزائرية قبل أن يصادر الاحتلال الفرنسي ممتلكاتها.
بعد وفاة بومدين في ديسمبر/كانون الأول 1978 غابت زوجته عن الأنظار، قبل أن تظهر مرة أخرى بداية تسعينيات القرن الماضي، لتكشف عما أسمته "التضييق الذي مورس عليها" في عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، وطردها من منزلها، وتقرر الاستقرار في باريس.
حليمة الشاذلي
بعد وفاة بومدين، تولى العقيد الشاذلي بن جديد رئاسة الجزائر، كانت شخصية مختلفة تماماً عن سلفه رغم تكوينه العسكري.
لم يكن الجزائريون يعرفون عنه الكثير، لكنه ظهر بشخصية هادئة وقليلة الظهور مقارنة بالراحل هواري بومدين.
ورغم ما قيل عن سعيه لـ"طمس كل الإنجازات التي ترمز لسلفه بومدين" فإنه حافظ على عُرفٍ رسخه هواري بومدين، وظهر الشاذلي بن جديد منذ بدايات حكمه برفقة زوجته.
حليمة الشاذلي واسمها الأصلي حليمة بوركبة، كانت ظل زوجها الرئيس مع كل ظهور رسمي له، عرفها الجزائريون بأناقتها وفساتينها المستمدة من التراث الجزائري.
ساهم ظهور الزوجتين أنيسة وحليمة في تحسين صورة بلد حديث الاستقلال، قيل حينها إنه "ثوري لكنه حداثي، لا عقدة له مع ثقافة الغرب حتى وإن اختار المعسكر الشرقي حليفاً له".
ولم تذكر الحقائق التاريخية أي دور لهما في صناعة القرار أو التأثير على أزوجاهم الرؤساء.
غير أن ذلك الظهور الأنيق لزوجة بن جديد لم يكن كـ"سيدة المرادية الأولى أنيسة بومدين"، فقد تحولت بسرعة البرق ولأسباب غريبة إلى "المصدر الأول لنكت الجزائريين" ما زالوا يتداولونها إلى يومنا.
وباتت تلك النكت ما يشبه من "الموروث الثقافي" الجزائري، وأي نكتة إلا وفيها اسم "حليمة" أو زوجها الرئيس.
واعتبر أكاديميون أن سبب "سخرية" الجزائريين من "حليمة" مرده الأخطاء اللغوية التي كان يقع فيها الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد عندما كان يخاطبهم أو يتحدث للإعلام الرسمي.
وأكثر خطأ اشتهر به ولا يزال متداولاً عند الجزائريين، عندما قال "الدولة التي ليس لها مشاكل ليست دولة، والحمد لله ليس لدينا مشاكل".
"العزوبية الرئاسية"
بعد استقالة الشاذلي بن جديد في يناير/كانون الثاني 1992، ودخول الجزائر في أتون حرب دموية قادتها "الجبهة الإرهابية للإنقاذ" الإخوانية المحظورة، لم تدخل بعدها زوجة الرؤساء الذين حكموا الجزائر بعد ذلك إلى القصر الرئاسي.
ربما لم تسمح السنوات الثلاث الوحيدة من حكم أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر من إظهار زوجته بسبب الانقلاب عليه، وكذا الرئيسان الأسبقيَان الراحلان محمد بوضياف (يناير 1992 – يونيو 1992) وعلي كافي (يونيو 1992 – يناير 1994) بسبب الوضع الأمني والسياسي.
وكان الحال ذاته مع الرئيس الأسبق اليامين زروال الذي فضل عدم اكمال ولايته الرئاسية وانسحب من السطلة عام 1999 دون أن يتعرف الجزائريون على زوجته أو حتى اسمها.
لكن مع مجيء الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة توقع الجزائريون إعادة ذلك العُرف الذي كان يمثل لهم "واجهة استقرار سياسي"، بعد أن ارتبط ظهور زوجات الرؤساء السابقين بالأمن والاستقرار طوال 30 عاماً الأولى من استقلال بلادهم.
توقع الجزائريين اعتمد على تاريخ وشخصية بوتفليقة، فقد كان أبرز وزراء هواري بومدين (وزير الخارجية)، ومتأثراً بالثقافة الغربية.
غير أن الأنباء تضاربت بعد ترشحه لرئاسيات 1999، بين من قال إنه تزوج من شقيقة رئيس الوزراء الأسبق علي بن فليس وبن روايات أخرى انقسمت بين من تحدثت عن وجود زوجة أجنبية وأخرى جزمت بأن الرجل لا يزال أعزب.
بوتفليقة الذي حطم الرقم القياسي في عدد سنوات حكمه للجزائر بـ20 سنة متتالية، لم يسر على النهج ذاته الذي عاصره مع من كان يعتبره قدوته وهو الراحل هواري بومدين.
فلم يتعرف الجزائريون لا على زوجته ولا على أولاده، لكنه اختار نوعاً آخر من "حكم العائلة"، عندما أدخل أشقاءه الـ4 إلى قصر "المرادية" الرئاسي، كـ"مستشارين له".
فسر متابعون وباحثون ذلك بشخصية بوتفليقة التي كانت تعرف الكثير عن دهاليز الحكم في الجزائر، وغير "الواثقة بوجوه أبعدته عن الساحة واتهمته بالسرقة بعد وفاة بومدين".
وبعد تدهور وضعه الصحي، بدل أن يتعرف الجزائريون على "سيدة الجزائر الأولى"، خرج عليهم "حاكم الجزائر من وراء الستار"، لم يكن ذلك إلا شقيقه ومستشاره الخاص "السعيد بوتفليقة" الذي ارتبط اسمه فيما بعد بـ"كل قضايا الفساد" التي لم تشهد لها البلاد مثيلاً في تاريخها كما يقول الجزائريون.
ومنذ ذلك الوقت، باتت صفة أي قرابة برئيس الجمهورية مهما كانت طبيعتها باتت محط شك وتشكيك وريبة الجزائريين كما يرى المراقبون، خصوصاً وأن فترة بوتفليقة شهدت "بروز عائلات ثرية بأكملها بأسماء كان الجزائريون يجهلونها وباتوا يحفظونها وحتى يلعنونها بعد حراك 22 فبراير/شباط 2019".
ويبدو أن ذلك كان كافياً للرئيس الجزائري الحالي وهو ثامن رئيس للبلاد، أن يُبعد زوجته عن الأنظار، رغم ورود اسم نجله في شبهة قضية فساد، قبل أن تبرئه محكمة "سيدي أمحمد" فبراير/شباط الماضي.