ليس في التاريخ المعاصر أشنع من الحرب الأهلية في سوريا، تلك التي تدخلت فيها كل القوى الإقليمية والدولية.
كل نكهات الحروب سيئة، ولكن أبشعها نكهة وأمرّها طعماً وأقساها على البشر هي الحروب الأهلية، الحروب التي يقتل فيها الأخ أخاه والجار جاره والمواطن صنوه، فهنا فقط لا يحضر شموخ الإمبراطوريات ولا تميز القوميات ولا افتخار الأوطان، بل هو قتل الأقرب فالأقرب، ودمار البلدان والأوطان، إنها الحروب التي تخدش ذاكرة الوطن بجروح لا تكاد تندمل.
يكتنز تاريخ البشرية روزنامة طويلة من الحروب الأهلية المدمرة، في كل أنحاء العالم، وبخلاف الحروب بين الإمبراطوريات أو القوميات أو الدول؛ فإن الحروب الأهلية ترتكز على الصراع حول المشتركات التي تنطلق منها بحثاً عن التمايز الضيّق، الذي يميز فئة عن فئة، ومجموعة عن مجموعة، إن دينياً أو طائفياً وإن عرقياً أو مذهبياً، وإن مناطقياً أو أيديولوجياً أو نحوها.
جاء في تعريف الحرب الأهلية أن «الحرب ظاهرة اجتماعية عريقة تعود إلى حالات التقاتل بين الإخوة، أساس الحروب الأهلية» وفي تعريف آخر أن «الحرب الأهلية، قتالٌ مسلحٌ بين أبناء البلد الواحد، يتجاوز بتوسعه وامتداده مجرد تمرد أو عصيان مسلح» وهذه التعريفات وأمثالها تمنح تصوراً واضحاً لمعنى الحروب الأهلية ومدى شناعتها وشرورها.
لا شيء يوازي الحروب الأهلية في ارتكاس الأوطان والدول والشعوب، إنها تضرب نواة الوحدة الوطنية لصالح مشاريع توسعية أو أيديولوجية أو تعزز الهويات الضيّقة دينياً وطائفياً وعرقياً، بحيث يفقد الوطن معناه ويتجزأ الولاء ويتقسّم.
مر العالم ومرت المنطقة بحروب أهلية عدة، كان لها أسوأ الأثر وأشنع النتائج، ومن أشهرها الحرب الأهلية الأميركية والحرب الأهلية الفرنسية التي سُميت لاحقاً الثورة، وحرب الثلاثين عاماً في أوروبا، والحروب الأهلية الأوروبية المتعددة، والمختلفة حجماً وتأثيراً، والحرب الأهلية في إسبانيا، وصولاً إلى الحرب الأهلية في تشيكوسلوفاكيا، والحرب الأهلية في أفغانستان بعد خروج الاتحاد السوفياتي، وغيرها كثير، وهو ما يمنح عمقاً للظاهرة في التاريخ واتساعاً لها في الجغرافيا.
وفي المنطقة، الحرب الأهلية سيئة الذكر في لبنان، والحرب الأهلية في السودان، وهي حربٌ انفصالية، أدت إلى التقسيم، واليوم نشهد حرباً أهلية في سوريا، وحرباً أهلية في ليبيا، وشيئاً يشبه الحرب الأهلية في اليمن، حيث هي في جزءٍ منها حربٌ انفصالية، وبالذات مع أحداث عدن الأسبوع الماضي.
حتى لا ننسى، فإن بشاعات وشناعات الحروب الأهلية بدت لها بوارق في العراق من قبل ومن بعد، ولكن العديد من المعاني والمفاهيم تنداح في لحظات الأزمات الكبرى؛ ويعاد تعريفها وتحميلها لمعانٍ مختلفة نظراً لحجم الصراع السياسي والجدل الذي يتبعه عادة لمددٍ تطول أو تقصر، ونظراً لاحتدام الصراعات تتم عملية واسعة من التعريف وإعادة التعريف، وصولاً إلى تبني المتناقضات، في السياسات والشعارات والمواقف.
ليس في التاريخ المعاصر أشنع من الحرب الأهلية في سوريا، تلك التي تدخلت فيها كل القوى الإقليمية والدولية ومثلت نقطة اجتماعٍ لكل المتناقضات السياسية في هذه اللحظة من تاريخ البشرية، روسيا بجيشها الجرار وقاعدتيها العسكريتين وإيران بكل مليشياتها الإرهابية وطموحاتها التوسعية، ونظام يقتل شعبه بكل القوات المسلحة ويتحدى العالم أجمع باستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة دولياً، مرة بعد مرة، تحت حماية روسية تمنع أي إدانة للنظام في المحافل الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وتركيا التي تتدخل عسكرياً في الشمال السوري تحت ذريعة مواجهة الأكراد، وأميركا التي تفتش عن موضع قدمٍ لا يلغيها من الوجود على الأرض، ومحاولة المشاركة في حلول أكثر عقلانية مما تسعى له روسيا في مستقبل الدولة السورية، والبلد الممزق ممتلئ بالإرهاب والطائفية والعرقية وكل أدوات التخلف البشري، حيث لا يجد قبس أملٍ في مستقبلٍ أفضل، والأحداث تجري والتاريخ يسجل شهاداته ويمضي.
مع الغوص في أوحال الماضي، والتقهقر الحضاري، تشهد المنطقة مواسم انتخابية في عدد من البلدان، ويتشبث البعض بشعاراتٍ ومفاهيم معاصرة من ديمقراطية وحقوقٍ ومساواة ونحوها، لا إيماناً بها وإنما لتوظيفها لخدمة هذا المشروع الطائفي أو ذاك المشروع الأصولي، فهل يمكن أن تكون مظاهر الديمقراطية من صندوق اقتراعٍ ومرشحين وناخبين جزءاً بأي شكلٍ من الأشكال من مظاهر الحروب الأهلية أو التحضير لها؟
الجواب، نعم ولا، في آنٍ معاً، فهذه المفاهيم المعاصرة يتم توظيفها في معارك لا أساس لهذه المفاهيم فيها، ولكنه الاستغلال والاستعداء، وإخفاء كل الجرائم الدولية تحت شعارات حضارية برّاقة لا تمت للواقع بصلة، فهل ما تصنعه إيران في العراق وسوريا يعتبر اتجاهاً نحو الحرية والحقوق والمساواة؟ وهل يمكن لشعاراتٍ مثل المقاومة والممانعة أن تخفي كل تلك الشرور الطائفية الإرهابية التي أدخلت القتل والدماء والأشلاء؛ وأدخلت استقرار الفوضى إلى عددٍ من الدول العربية أن تشكل بأي حالٍ دفعاً نحو مستقبل لدولٍ مستقرة تعمل للتنمية ولخدمة شعوبها؟ هذا كلام غير معقولٍ بتاتاً، ولكن يتم تسويقه إعلامياً وثقافياً وسياسياً وكأن المتلقي لا يستطيع التمييز بين الإرهاب والخير.
لا شيء يوازي الحروب الأهلية في ارتكاس الأوطان والدول والشعوب، إنها تضرب نواة الوحدة الوطنية لصالح مشاريع توسعية أو أيديولوجية أو تعزز الهويات الضيقة دينياً وطائفياً وعرقياً، بحيث يفقد الوطن معناه ويتجزأ الولاء ويتقسّم، وتفقد الهوية الوطنية الجامعة معناها وقيمتها، ومن ثم تلجأ كل مجموعة لما يعزز مصالحها ضمن هذه الهويات الضيقة، ويبتدئ نوعٌ جديدٌ من القتل على الهوية، ويفتح باباً من أبواب جهنم على الدول والشعوب، وعلى المجتمعات والأفراد.
يجب وضع التدخل التركي في عفرين في سياق تصريحات وسياسات الرئيس التركي أردوغان، الذي لم يفتأ يطرح نفسه بمشروعٍ أصولي كخليفة جديدٍ للمسلمين بالتحالف القوي مع دولة قطر وجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وجميع جماعات الإسلام السياسي الإرهابية، وهو دائم الاستحضار للعهد الاستعماري التركي للعالم العربي، ويدخل أحياناً في أدق التفاصيل حول صراعاتٍ وأحداثٍ تاريخية لم يكن له كرئيس دولة أن يتدخل فيها، خاصة وهو يقود دولة قامت على هدم الخلافة العثمانية من أساسها وأقامها مصطفى كمال أتاتورك على أسس علمانية ترفض مشروع أسلمة الدولة الذي ينادي به أردوغان.
وضع هذا التدخل في سوريا مع بناء قاعدة عسكرية في قطر وأخرى في جزيرة سواكن في السودان مع التحالفات المعادية والمشاريع المخاصمة للدول العربية كلها؛ تدق ناقوس خطرٍ يجب أن يؤخذ في الحسبان.
أخيراً، لا أسوأ من الحروب الأهلية إلا مسوّقوها على أنها سبيل نجاة وطريق خلاصٍ، وهي أسوأ نكهة قد يتذوقها بشرٌ.
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة