سعر الصرف المرن.. كيف ومتى تلجأ له الدول؟
أقدمت السلطات المصرية اليوم ممثلة في البنك المركزي، على تطبيق سياسة سعر الصرف المرن لدعم الجنيه مقابل العملات الأجنبية.
لكن كيف ومتى تلجأ الدول لتفعيل واتباع سعر الصرف المرن؟ وما هي مزاياه ونتائجه؟ ومدى ملائمته لحالة الاقتصاد المصري بصورة خاصة، والاقتصادات الناشئة والنامية بصورة عامة.. وهذا ما سنوضحه في التقرير التالي.
كيف ومتى تلجأ الدول لسعر الصرف المرن؟
عند التحرك نحو مرونة سعر الصرف، يجب توافر أربعة عناصر رئيسة، وهي:
- سوق للنقد الأجنبي تتسم بالعمق والسيولة.
- سياسات متماسكة تحكم تدخل البنك المركزي في سوق النقد الأجنبي (ممارسات شراء أو بيع العملة المحلية للتأثير في سعرها أو في سعر الصرف).
- ركيزة اسمية ملائمة تحل محل سعر الصرف الثابت.
- نظم فعالة لتقييم وإدارة مخاطر سعر الصرف في القطاعين العام والخاص.
- وعادة ما يختلف التوقيت المختار لكل من هذه العناصر ودرجة الأولوية المعطاة لها مع اختلاف البلد المعني وأوضاعه المبدئية وهيكله الاقتصادي.
وفق صندوق النقد الدولي، يتطلب تطبيق نظام سعر الصرف المرن وجود سوق للنقد الأجنبي على درجة كافية من السيولة والكفاءة تسمح باستجابة سعر الصرف لقوى السوق، ويعمل على تخفيض عدد موجات التقلب المفرط والانحرافات عن سعر الصرف التوازني (الذي يتوافق مع أساسيات الاقتصاد في البلد المعني (والمدة التي تستغرقها هذه الموجات والانحرافات، حتى تتحقق عملية «اكتشاف السعر».
ويتألف سوق النقد الأجنبي عموما من سوق للتداول بالجملة بين البنوك حيث تتم المعاملات بين الوسطاء المعتمدين (عادة البنوك والمؤسسات المالية الأخرى)، وسوق للتداول بالتجزئة حيث تتم المعاملات بين الوسطاء المعتمدين والعملاء النهائيين كالأسر المعيشية والشركات. والسوق السائلة هي التي تتسم بضيق الفروق نسبيا بين سعر الشراء وسعر البيع، وانخفاض تكاليف المعاملات، وكفاية حجم الأعمال للحد من تأثير المتاجرات المنفردة على الأسعار، ووجود نظم للتداول والمقاصة والتسوية تساعد على سرعة تنفيذ الأوامر، والتنوع الكبير في قاعدة المشاركين النشطين في السوق.
غير أن أسواق النقد الأجنبي في العديد من البلدان النامية تتسم بالضحالة وعدم الكفاءة، وهو ما يرجع جزئيا إلى كثرة القواعد المنظمة للنقد الأجنبي كالقيود على تدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود (وهي قيود تحد من حجم التداول في السوق)، والقيود الاحترازية الصارمة على صافي المراكز المفتوحة بالعملات الأجنبية، وشروط تسليم حصيلة النقد الأجنبي إلى البنك المركزي. وعادة ما تكون أسواق تداول النقد الأجنبي بين البنوك إن وجدت أسواقا محدودة مقارنة بأسواق التجزئة، الأمر الذي يحد من فرص اكتشاف السعر المناسب.
مزايا نظام سعر الصرف المرن
اقتصاديًا، اتضح أن البلدان التي تعتمد نظما لسعر الصرف الثابت تبدو معرضة لأزمات العملة، وكذلك الأزمات المصرفية، مقارنة بالبلدان التي تعتمد نظمًا أكثر من مرونة. وبالفعل يبدو أن المزايا المترتبة على مرونة سعر الصرف تزداد مع تطور الاقتصادات وارتباطها على نحو أوثق بالأسواق المالية والدولية.
وقد ازداد عدد البلدان التي اعتمدت نظما أكثر مرونة على مدار العقد السابق، ومنها البرازيل وشيلي وإسرائيل وبولندا. ومن المرجح استمرار هذا الاتجاه العام نحو زيادة المرونة في أسعار الصرف مع ازدياد عمق الروابط عبر الحدود وما تسببه من تعريض بلدان العملة المربوطة لتدفقات رأسمالية أكثر تقلبًا، نظرًا لما تكفله النظم المرنة من حماية أفضل ضد الصدمات الخارجية وما تحققه من استقلالية أكبر في السياسة النقدية، حيث ستكون قوى السوق (العرض والطلب) هي المحرك الرئيسي.
وقد نجحت بعض البلدان في التحول بشكل تدريجي سلس من أسعار الصرف الثابتة إلى الأسعار المرنة باعتمادها أشكالا وسيطة من نظم الصرف كالربط المرن، ونطاقات التقلب الأفقية والزاحفة، والتعويم الموجه قبل السماح بالتعويم الحر لأسعار الصرف.
غير أن التحول في بلدان أخرى كان تحولا غير منظم أي اقترن بانخفاض حاد في سعر العملة. وقد كان معظم التحولات إلى نظم سعر الصرف المرنة في الفترة من 1990 إلى 2002 تحولات من النوع غير المنظم.
الحالة المصرية.. ونظام سعر الصرف المرن
ليست هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها مصر إلى نظام سعر الصرف الأكثر مرونة، فالبداية كانت في نوفمبر 2016 عندما قام البنك المركزي بتعويم الجنيه مقابل العملات الأجنبية من أجل تحقيق سعر صرف مرن وعادل ينقذ الجنيه والاقتصاد من أزمة النقد الأجنبي التي شهدها في تلك الفترة.
وعبر برنامج الإصلاح الاقتصادي، فقد تم الانتقال إلى سعر الصرف المرن دون عقبات، وانتهت بالكامل تقريبا ظاهرة السوق الموازية ومشكلة عدم توافر العملة الأجنبية، وسجلت احتياطيات البنك المركزي زيادة كبيرة. وساهم إصلاح دعم الطاقة والسيطرة على الأجور وتطبيق ضريبة القيمة المضافة الجديدة في تخفيض عجز المالية العامة، كما ساعد على إفساح مجال للإنفاق الاجتماعي الداعم للفقراء. وبدأت مصر تسترد ثقة السوق كما بدأ تزايُد التدفقات الرأسمالية.
ويعتبر تخفيض التضخم هو أولوية قصوى بالنسبة للسلطات، حيث يشكل خطرا على الاستقرار الاقتصادي الكلي ويلحق الضرر بالفقراء. وقد اتخذ البنك المركزي –آنذاك- خطوات واسعة نحو تخفيض التضخم بتطبيق زيادة كبيرة في أسعار الفائدة الأساسية وامتصاص السيولة الفائضة، كما وضع إطارا نقديا يرتكز على سياسة واضحة التحديد ويعمل على تعزيز التواصل مع الأسواق والجمهور لإدارة توقعات التضخم، ونجح بالفعل في ذلك. والبنك المركزي ملتزم أيضا بالحفاظ على سعر الصرف المرن، وهو عامل حيوي للوقاية من الصدمات والحفاظ على التنافسية ومراكمة الاحتياطيات.
ومن المتوقع اليوم أن يؤدي نظام سعر الصرف المرن وإطار السياسة النقدية القوي والالتزام بمواصلة الضبط المالي إلى المساعدة على إعادة بناء هوامش الأمان التي توفرها السياسات.
وقد أصدار البنك المركزي المصري، صباح يوم الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول، حزمة قرارات أهمها؛ زيادة سعر الفائدة 200 نقطة أساس، وتحديد نظام سعر صرف مرن للجنيه مقابل العملات الأجنبية، وإلغاء تدريجي للتعليمات الصادرة بشأن الاعتمادات المستندية في عمليات تمويل الاستيراد، إضافة إلى تطوير سوق المشتقات المالية لتعميق سوق الصرف الأجنبي.
في 2016 نجح المركزي في النزول بالتضخم من مستويات الـ30%، إلى مستويات الـ6% في 2019، لكن اليوم مع تشعب المتغيرات والتحديات هل ينجح المركزي في معالجة اختلال ميزان المدفوعات وتقليص معدلات التضخم إلى قرب النطاق المتسهدف عبر نظام سعر السرف المرن؟ هذا ما ستكشفه الفترة المقبلة.
aXA6IDMuMTQ3Ljg5LjUwIA== جزيرة ام اند امز