المناخ وتصنيع الغذاء.. اختفاء 200 مليون وظيفة
تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن قطاع إنتاج الغذاء على مستوى العالم خسر حوالي 200 مليون وظيفة على مدار الثلاثة عقود الأخيرة.
بينما ترجع تقارير دولية فقدان ملايين الوظائف المرتبطة بمجال إنتاج الغذاء إلى التغيرات المناخية كأحد الأسباب الرئيسية، إضافة إلى عوامل أخرى تدعو منظمات أممية إلى مجموعة إجراءات للحفاظ على كثير من الوظائف التي توشك على الاختفاء، تتضمن تشجيع الاستثمار في الاستدامة الريفية، وضمان استفادة المجتمعات المحلية من المكاسب الاقتصادية.
تقديرات البنك الدولي لعام 2021 تشير إلى أن هناك "تكاليف خفية" للنظم الغذائية الحالية، على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تصل إلى 12 تريليون دولار سنوياً، مما يؤكد أن إحراز تقدم بشأن الأهداف العالمية للتنمية المستدامة، أو طموحات العمل المناخي، ووقف فقدان التنوع البيولوجي يتطلب إحداث تغييرات كبيرة في كيفية إنتاج الغذاء وتوزيعه.
مبادرات لتغيير طرق إنتاج وتوزيع الغذاء
وفي ظل الاهتمام العالمي المتزايد بجعل نظم إنتاج الغذاء أكثر استدامة وأقل تدميراً للبيئة، ظهرت عدة مبادرات لإحداث التغيير المنشود في طرق الإنتاج والتوزيع، مما ساعد على ظهور فرص للتصدي للفقر وعدم المساواة، ومشاكل اجتماعية أخرى، بالإضافة إلى تخفيف حدة التغيرات المناخية، وتجنب مزيد من تدهور التنوع البيولوجي.
وعلى الرغم من أن التقدم التكنولوجي يمكن أن يساعد في تحسين ظروف العمل، وتعزيز الإنتاج، ووصول منتجي الأغذية إلى الأسواق، إلا أن دراسة حديثة تظهر أن أحد أكبر التحديات التي تواجه مبادرات الاستدامة الريفية وإحداث التغيير المطلوب يتمثل في كيفية عكس حركات الهجرة الداخلية، في ظل تفاقم التداعيات السلبية الناجمة عن تغير المناخ.
وتوضح الدراسة، التي نشرت نتائجها في دورية "نيتشر"، أن الكثيرين ينظرون إلى حركة هجرة ملايين الأشخاص من المناطق الريفية والانتقال إلى المعيشة في المدن أو على أطرافها هي نتيجة حتمية للحداثة والتقدم في المجتمعات البشرية، وبالتالي فإن عكس مسار حركة الهجرة يمثل أحد أبرز الحلول للحفاظ على وظائف إنتاج الغذاء المهددة بالاختفاء.
ووفقاً لبيانات التوظيف الصادرة عن منظمة العمل الدولية، إحدى وكالات الأمم المتحدة، فإن حوالي 200 مليون وظيفة في مجال إنتاج الغذاء على مستوى العالم قد اختفت تماماً على مدار الـ30 عاماً الأخيرة، وفي ظل تفاقم حدة التغيرات المناخية، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى فقدان نحو 120 مليون وظيفة أخرى بحلول عام 2030، غالبيتها في دول منخفضة ومتوسطة الدخل.
تشير الدراسة إلى أن هذا الانخفاض الكبير في التوظيف على مستوى العالم قد تسبب في انهيار عدد كبير من الأسر والمجتمعات المحلية في كثير من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، نتيجة انتقال ملايين الأشخاص إلى المناطق الحضرية، وهي العملية التي تتزايد يومياً مدفوعة بتداعيات التغيرات المناخية، التي أضرت بموارد الرزق في تلك المجتمعات.
وتلفت الدراسة إلى أحد التحديات الأخرى الناتجة عن هجرة ملايين الأشخاص من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية أو شبه الحضرية، حيث يعيش عدد كبير منهم في ظروف غير مستقرة أكثر مما كانوا عليه من قبل في مناطقهم الأصلية، ويفتقرون إلى فرص العمل وكثير من الخدمات الأساسية، مثل الإسكان، وعادةً ما يواجهون ظروفاً اقتصادية واجتماعية بالغة الصعوبة.
تراجع فرص نقل المعرفة بين الأجيال
وفي ظل هذه الأوضاع المعقدة، تتراجع عمليات تناقل المعرفة بين الأجيال، فيما يتعلق بطرق إنتاج الغذاء إلى أدنى مستوياتها، حتى أوشكت على الاختفاء هي الأخرى، خاصةً فيما يتعلق بعناصر التنوع البيولوجي التي يستخدمها المزارعون والصيادون والرعاة ومديرو الغابات، والمعرفة بالأنواع البرية لتقنيات إنتاج الغذاء، وكذلك المعرفة بكيفية إدارة النظم البيئية.
وتقترح الدراسة 3 اتجاهات رئيسية يجب العمل عليها بالتوازي، لعكس مسار حركة الهجرة من المناطق الريفية، يتمثل الأول في حشد مزيد من الاستثمارات، من قبل الهيئات الحكومية والمنظمات غير الحكومية، لتطوير البنية التحتية الأساسية والخدمات العامة، مثل المدارس وشبكات النقل والتقنيات الرقمية وغيرها، في مناطق السكان الأصليين، مع إنهاء ممارسات التهوين من دور صغار منتجي الأغذية.
الاتجاه الثاني يتعلق بأن تعمل المبادرات الدولية والوطنية لجعل إنتاج الغذاء أكثر مرونة وتنوعاً، على معالجة المشكلات الاجتماعية في المجتمعات الإنتاجية، جنباً إلى جنب مع المشكلات البيئية.
ويتضمن الاتجاه الثالث الدعوة إلى تقريب الفوائد الاقتصادية لإنتاج الغذاء من أماكن زراعة المنتجات الغذائية، بما ينعكس على العاملين في هذا القطاع داخل مناطقهم الأصلية.
وحتى تكون هذه المبادرات أكثر فاعلية يجب أن تأخذ في اعتبارها الحقوق الأساسية للسكان الأصليين في المجتمعات الريفية المتنوعة، وأن تعمل على الاستفادة بالمعارف والتقنيات المحلية في إنتاج الغذاء، بالإضافة إلى التأكيد على دور وطموحات الشباب كقوة فاعلة لتعزيز فرص العمل في اقتصاديات إنتاج الغذاء، داخل مجتمعاتهم المحلية.
حيازات صغيرة بإسهامات كبيرة
وعلى الرغم من أن كثيراً من صانعي السياسيات والحكومات، وكذلك العلماء، يركزون اهتمامهم على عمليات إنتاج الغذاء الموجهة للتصدير، تظهر التقديرات الدولية أن مساهمات أنظمة إنتاج الغذاء للسكان الأصليين وأصحاب الحيازات الصغيرة تبلغ مستويات كبيرة.
وتستوعب أنظمة إنتاج الغذاء الصغيرة ومتوسطة الحجم أكثر من 866 مليون شخص، من خلال العمل في الزراعة ومصايد الأسماك والرعي وإدارة الغابات، بما يمثل نسبة 26% من حجم القوة العاملة على مستوى العالم، يعيش أكثر من 89% منهم في المناطق الريفية، حيث يدير ما يقرب من 500 مليون شخص من السكان الأصليين أكثر من ربع مساحة الأرض في العالم.
وتسهم مزارع أصحاب الحيازات الصغيرة أقل من 5 أفدنة، وحدها في توفير حوالي 35% من إمدادات الغذاء العالمية، خاصةً في دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا.
كما أن المصايد الصغيرة للأسماك تتيح ما يزيد على 110 ملايين فرصة عمل، أي أكثر من مجموع ما توفره المصايد الصناعية العملاقة، وقطاعات إنتاج النفط والغاز والشحن والسياحة.
ويعتبر صغار ومتوسطو منتجي الأغذية من الفئات الأكثر عرضة لتأثيرات تغير المناخ، وتشمل هذه المجموعة 65% من سكان العالم، الذين يعيشون في فقر مدقع.
وعلى الرغم من أن السكان الأصليين والمزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة يشكلون حائط صد لحماية أراضيهم ومواردهم، من محاولات الاستيلاء على الأراضي والمياه، وقطع الأشجار غير القانوني، والتعدين المفرط، والصيد الجائر، إلا أنهم غالباً ما يتعرضون لضغوط كبيرة للتخلي عن أراضيهم، وقد يتعرضون للعنف في سبيل ذلك، كما أنهم يفتقرون إلى حماية تشريعات العمل والاستحقاقات الاجتماعية، مثل مزايا الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي.