ها قد تحققت المفاجأة وأصبح «دونالد ترامب» رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. هو فوز أقرب للزلزال السياسي.
ها قد تحققت المفاجأة وأصبح «دونالد ترامب» رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. هو فوز أقرب للزلزال السياسي. صحيح أن خطاب الانتصار الذى ألقاه «ترامب» وسط أنصاره جاء مطمئناً ومعتدلاً ومختلفاً عن كل مداخلات حملته الانتخابية، لكن ولأن لكل زلزال توابع وارتدادات فالسؤال هو كيف وأين ستكون توابع وارتدادات وصول «ترامب» إلى البيت الأبيض الأمريكى؟ سؤال لا يمكن فصله عن تساؤل آخر هو كيف يمكن ابتداء تفسير حصول هذا الزلزال السياسى الذى خالف كل التوقعات السابقة بفوز «هيلارى كلينتون» ؟
يبدو مثيراً البحث عن تفسير لفوز ترامب وإخفاق كلينتون على أكثر من صعيد. فالحاصل حتى قبل إجراء الانتخابات بأسابيع هو تقدم هيلارى كلينتون فى استطلاعات الرأى على خلفية حملة تأييد ومؤازرة لها من نخب سياسية وقوى إعلامية ورموز ومشاهير الفن والسينما. فى الوقت ذاته الذى كانت فيه هذه القطاعات والدوائر المجتمعية تهاجم دونالد ترامب بضراوة وتحذر من النتائج الكارثية لانتخابه. وصل الأمر فى سابقة لا مثيل لها فى تاريخ الانتخابات الأمريكية إلى حد تبرؤ أبرز قيادات الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه ترامب من ترشيحه والتفكير فى اللحظات الأخيرة فى البحث عن مرشح آخر بديل. كيف لمثل هذه المعطيات أن تتمخض عن مثل هذا الانقلاب الكبير فى نتائج الانتخابات؟
لعلّ كلمة تغير «المزاج» الشعبى الأمريكى هى أكثر الكلمات استخداماً فى تفسير ظاهرة بزوغ ترامب وهو المرشح الآتى من خارج الطبقة السياسية المفتقر تماماً إلى أيٍ من مناصب وخبرات العمل السياسي. استخدم الرجل فى التعبير عن أفكاره خطاباً مباشراً وفجّاً بلا أية كلمات منمّقة أو دبلوماسية . وصلت فجاجة الخطاب إلى حد دعوته لحظر دخول المسلمين إلى أمريكا وبناء سُوَر فاصل عن المكسيك وفرض إتاوات حماية على بعض الدول الحليفة لأمريكا ، وإنذار الشركات الأمريكية الكبيرة العابرة للحدود من فرض ضرائب عليها إذا نقلت مصانعها إلى دول رخيصة العمالة مثل الصين والمكسيك . ويبدو أن هذا الخطاب قد صادف مزاجاً أمريكياً شعبياً مواتياً إما لاعتبارات اقتصادية تفسر فوزه بولايات الوسط التى انتقلت معظم مصانعها الى الصين والمكسيك ، وإما لاعتبارات سوسيو ثقافية مؤداها أن مخاوف الأمريكيين ما زالت قائمة من الإقليات المهاجرة ذات الأصول اللاتينية أو الإفريقية أو الإسلامية . لم يكن ينقص هذه المخاوف سوى خطاب تحريضى يوقظ الغرائز العنصرية الكامنة أو النائمة فى عقول الكثيرين حتى جاء دونالد ترامب فأيقظها. لم تعكس استطلاعات الرأى السابقة هذه المتغيرات لأن كتلة كبيرة من اليمين الجمهورى المتعاطف مع أفكار ترامب لم تفصح عن نفسها وفاجأت الجميع بالتصويت له.
دلالة أخرى فى تفسير الزلزال الأمريكى هى أن المجتمع الأمريكى شأن أى مجتمع ديموقراطى حر لا يتحمس كثيراً لتأييد حزب واحد لفترة زمنية طويلة. إنها سمة شعوب تميل أحياناً إلى التغيير لمجرد التغيير. ولو تتبعنا الانتخابات الأمريكية لاكتشفنا أنه لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية أن انتخب الأمريكيون رئيساً جديداً من نفس الحزب الذى ينتمى إليه الرئيس المنتهية ولايته باستثناء انتخاب جورج بوش الأب (الجمهورى) عقب انتهاء ولاية رونالد ريجان (الجمهورى).
الدلالة الأخرى المثيرة للجدل هى مدى تأثير تدخل جهاز FBI حين قرر إحالة قضية البريد الالكترونى لهيلارى كيلنتون إلى الكونجرس برغم سبق تقديمها منذ شهور وإغلاق التحقيق فيها. كانت هذه هى القنبلة التى ألقيت بوجه كلينتون قبيل إجراء الانتخابات بأسبوع. أثارت هذه القنبلة من الجدل السياسى والنقاش القانونى ما سوف يبقى لفترة طويلة مقبلة. من منظور سياسى كان التساؤل حول ما إذا كان تصرف مدير FBI جيمس كومى الذى أحال القضية الى الكونجرس فى هذا الوقت الحرج يعكس موقفاً متجرداً لموظف نزيه ومحايد يضطلع بأمانة بواجبات وظيفته أم أن هذا التصرف يحتمل تأويلاً آخر لأنه بدا مثل قبلة الحياة التى مُنِحت إلى دونالد ترامب فى توقيت كانت الأزمات والتسريبات وزلّات اللسان قد حاصرته من كل جانب ؟ أما من منظور قانونى فالتساؤل قائم على لسان وزارة العدل الامريكية نفسها التى اعتبرت تصرف جيمس كومى مخالفاً للقانون الذى يحظر على جهة حكومية التدخل على هذا النحو خلال فترة تقل عن ١١ يوماً من تاريخ إجراء لانتخابات؟ يستمد هذا التساؤل أهميةً وربما إثارةً إضافية حين نعلم أن جيمس كومى كان عضواً سابقاً فى الحزب الجمهورى حتى فترة قصيرة مضت !
عن التساؤل الخاص بالتوابع والارتدادات المتوقعة للزلزال الأمريكى فمن الواضح ان فوز «ترامب» يمثل جزءاً من ظاهرة عالمية يبدو أنها تجتاح العالم اليوم بدرجات متفاوتة، وهى ظاهرة صعود اليمين المتطرف فى معظم أنحاء العالم. وبصرف النظر عن التسمية الأدق لهذا التيار الجديد وهل هو يمين متطرف، أو تيار قومى انعزالى، أو يمين محافظ جديد ، فإن الأكثر أهمية هو معرفة أسباب وعوامل هذه الظاهرة ومحاولة استقراء مآلاتها وتداعياتها المستقبلية. يمكننا أن نرى اليوم بوضوح بعد فوز « ترامب» وفى العديد من الدول الأوربية وفى روسيا وبعض دول أوربا الشرقية بل وفى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربى مناخاً عالمياً جديداً يتشكل من ظواهر تنامى العنصرية، والخوف من الأجانب ، والإسلاموفوبيا ، وإحياء المشاعر القومية ، والميل إلى العزلة ، والتقوقع الجغرافي
الغريب والمدهش أن كل الظواهر السابقة تجيء بعكس اتجاه حركة العولمة التى اندلعت منذ نحو عشرين عاماً مبشرةً بسقوط الحدود والحواجز والدعوة إلى انتقال البشر والسلع والخدمات والأفكار والمعلومات. فما الذى حدث فجأة حتى تتحوّل دعوات الانفتاح والتواصل الإنسانى إلى نزعات انغلاق وانعزال؟ هل يمكن رد هذا المزاج العالمى الجديد إلى خيارات حكومات وأجندة أحزاب سياسية أم أنه يعبر عن توجه شعوب وثقافة مجتمعات ؟ يوحى فوز دونالد ترامب بأن هذا المزاج العالمى الجديد لم تصنعه قرارات أو سياسات حكومية بل هو نتاج لتوجهات وثقافات شعبوية جديدة لأن الرجل لم يكن مدعوماً بأجهزة حكومية ولم يجيء حتى من داخل المؤسسات السياسية للدولة بل إن حزبه الجمهورى نفسه فقد حماسته له فى الشهور الأخيرة . ليس ثمة تفسير سوى أننا أمام مناخ عالمى جديد آخذ فى التصاعد والانتشار يحتاج إلى تحليل شامل وعميق لمعرفة عوامل نشوئه واحتمالات تطوره. فالخوف كله أن تصل توابع وارتدادات الزلزال الأمريكى إلى مناطق أخرى فى العالم . إذ يبدو أن أحلام المجتمعات الفقيرة النامية فى العولمة والتواصل الإنسانى تكاد تتحوّل إلى كوابيس. ثمة رائحة غير طيبة تفوح من أكثر من مكان فى هذا العالم . يا خفيّ الألطاف نجّنا مما نخاف !
* نقلاً عن " الأهرام "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة