كشفت أزمة فرنسا الأخيرة عن أنّ هناك حاجة أكبر وأوسع إلى بسط مفاهيم الحوار بين البشر كافّة.
على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يتبين لنا أنّ هناك حاجة مُعمَّقة يوما تلو الآخر لتفعيل الحوار بين أتباع الأديان. والهدف المراد تحقيقه هو القفز على العقبات التي يمكن أن تُعكِّر صفو الإنسانية في حاضرات أيّامها .
جاءت أزمة الرسومات الكاريكاتوريّة سيّئة السمعة مرّة جديدة لتُعيق جريان المياه ليس بين فرنسا والعالم الإسلاميّ فحسب، بل بين الشعوب أنفسها؛ ذلك أنّ الإساءة إلى المقدَّسات الدينيّة شأنٌ يجرح القلوب، ويمسّ شغافها، ويقطع الطريق على التعايش السِّلميّ والإنسانيّ بين بني البشر.
يمكن للمرء أن يتفهّم ما الذي تعنيه مسألة حرّيّة الرأي، ولكن ما لا يمكن قبوله عقلا أو عدلا، هو الإهانة المُوجَّهة إلى مليار ونصف مسلم حول العالم، وإعادة تدوير الأزمة. وكأنه إصرار بعينه على تعميق الجرح، تحت شعار من العلمانيّة المغرقة في الجفاف كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الفرنسيّ اليساريّ "ريجيس دوبريه"، في مؤلَّفه الشهير "الأنوار التي تُعمِي".
أفرزت الأزمة الأخيرة أصوات زاعقة ورايات فاقعة في المواجهة، وغالبيّتها إن لم تكن كلّها أصوات أبوكريفيّة منحولة لها أهداف أخرى متوارية بعيدة كلّ البُعْد عن الأزمة الأصليّة، بل تتوارى في ثوب الدفاع عن الدين الحنيف، بينما هي في حقيقة الأمر تسعى لإشاعة المزيد من الفوضى التي تخدم إرهابها الذي لا تداريه أو تواريه. وسواء كان إرهابا إيديولوجيّا أو لوجستيّا، الأمر الذي تَبدَّى بشكل مغشوش في مواقف كلٍّ من تركيا وقطر، فالأولى يُخيَّل لرئيسها أنّه حامي حِمَى الإسلام، والثانية تُروّج له عبر أبواقها الإعلاميّة المنحولة، والتي فقدت أيّ وكلّ مصداقيّة.
ولعلّ التساؤل الجوهريّ الواجب طرحه بين يدي المشهد: "هل يُترَك العالمُ لحفنةٍ من العلمانيّين المكابرين في مواجهة جماعة من الأصوليين الراديكاليّين لتحديد مستقبل العالم ورسم مساقات ومسارات الأجيال القادمة، أم أنّ اللحظة الآنيّة تستدعي الكثير من العقلانية لتحجيم هذا الانفلاش الضارّ داخل العقول، ووَأْد الفتنة في القلوب؟
حين يتابع المرء رَدّات الفعل العقلانيّة، والتي تمثَّلتْ في الإجراءات التي اتّخذها مجلس حكماء المسلمين، يُدرِك المرءُ فكرة الرسالة التي تسعى في طريق التوفيق وليس التفريق، وإعمال العقل عِوَضا عن ترك الأمور لأصحاب الرؤوس الساخنة، والعمل انطلاقا من القاعدة الذهبيّة: "إن كنت قد تكلمت بالرديء فاشهد بالرديء، وإلاّ فلماذا تضربني؟".
كشفت أزمة فرنسا الأخيرة عن أنّ هناك حاجة أكبر وأوسع إلى بسط مفاهيم الحوار بين البشر كافّة، هذا إن أردنا سلاما حقيقيّا بين الأمم، وتواريا مؤكَّدا للحروب والصراعات. وما أسوأ الصراعات ذات الملمح والملمس الدوجمائيّ؛ فإنّها نارٌ غير قابلة للانطفاء في الحلّ والترحال.
ولعلّ تجربة الإمارات العربيّة المتّحدة بنوع خاصّ على صعيد المؤسّسات والجمعيّات، المؤسّسات والأفراد، وكلّ مَن يحمل راية الحوار مع الآخر، تؤكِّد الأيّام على أهمّيّتها، بل أكثر من ذلك أنّها تحثّنا على الخروج إلى دروب الحوار على مستوى الحياة، وتفعيل الحوار على مستوى الأعمال، وترفيع الحوار إلى مستوى الفكر اللاهوتيّ والفقهيّ، ثمّ وربّما هذا ما يمكن أن يكون ملهِما للبشريّة برُمّتها، وهو جعل الحوار على مستوى الخبرة الروحيّة. ويوصف هذا الأخير، أي الحوار على مستوى الخبرة الروحيّة بأنّه حوار يتمّ بين أشخاص راسخين في التقاليد الدينيّة الخاصّة بهم، وهم يريدون أن يتقاسموا ثرواتهم الروحيّة؛ من أجل خير الإنسانيّة العامّ، وبعيدا عن البراجماتيّة غير المستنيرة التي تسعى إلى إدراك مصالح ضيّقة على المستوى الاقتصاديّ، أو تسخير الروحانيّات لخدمة الأغراض السياسيّة ذات الطابع التسلّطيّ والباحث عن مكاسب استعماريّة ارتبطت بدول وإمبراطوريّات أفشت الظلاميّة في إطارها الإقليميّ، وكذا في الدول التي هيمنت عليها، كما الحال مع العثمانيّة القديمة.
يَعِنّ لنا أن نُوجِّه بعض الأسئلة الحيويّة للذين أثاروا فتنة الصور المسيئة للإسلام وللمسلمين، وفي المقدمة منها: "هل جاء فعل التعبير عن الرأي بهذاالشكل الممجوج ليضيف مدماكا حقيقيّا في بنية العالم المعاصر المهترئة، وحيث تقترب البشريّة من حرب عالميّة ثالثة قد لا تُبقِي ولا تذر؟
الذين تابعوا سطور الرسالة البابويّة الأخيرة التي أصدرها رأس الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة فرنسيس تحت عنوان كلّنا إخوة، يمكنهم أن يرصدوا الدور الحقيقيّ للتنوير وليس الدور المغشوش، ذلك أنّ كلّ تنوير يستدعي من العصور السحيقة مواجهات دينيّة أو قَبَليّة عصبيّة، هو ليس تنويرا بل ظلام، كما أنّ كلّ رسالة إعلاميّة تتسبّب في إثارة العداوة والبغضاء بين البشر، تُباعِد كثيرا جدّا عن الهدف الرئيس المنتظَر فلسفيّا وعقليّا من الرؤى الدينيّة الحقيقيّة.
ينتظر البشر من مشرق الشمس إلى مغربها إجابات من الأديان عن أسئلة حائرة مخبوءة في الوضع الإنسانيّ، وهي ألغاز أقلقت ولا تزال تُقلِق القلب البشريّ في عمقه، في ماضيه وحاضره: ما الإنسان؟ ما معنى حياتنا وغايتها؟ ما الخير؟ وما الشر؟ ما مصدر الآلام وما غايتها؟ ما الطريق الذي يقود إلى السعادة؟ ما الموت والحساب والجزاء بعد الموت؟ وأخيرا ما السرّ المطلق المتعالي على كلّ وصف، والذي يحيط بوجودنا كلّنا، فمنه نأتي إلى الوجود وإليه نصير.
أيّ منفعة عادت على البشريّة من بضع صور مسيئة؟ والمعلوم كذلك أنّ صحيفة "شارلي إبدو" عينها، مارقة إلى أبعد حدّ ومدّ في تصوير الإيمانيّات المسيحيّة بأبشع صورة، وهو ما ينكره المسلمون قبل المسيحيّين. نقول: ما القيمة الإيجابيّة المضافة التي أفادت العالم من وراء عناد يَدّعي أنّه تنويريّ، في أزمنة صعبة تتعالى فيها أصوات القوميّات والشوفينيّات، وتعود الصراعات العِرْقيّة لتهدّد هذه وتلك أمنَ العالم المهدَّد أصلا، وسلامه المنقوص في واقع الأمر؟
الإنسانيّة شرقا وغربا، أديانا توحيديّة، ومذاهب وضعيّة، وفي هذا التوقيت المثير للمخاوف، مدعوَّةٌ إلى تعميق التساؤل البشريّ حول معنى الوجود عينه، وكيفيّة القفز على الجدران، ومدّ الجديد والمفيد من الجسور.
الخليقة اليوم مدعوّة إلى أنسنة الإنسانيّة، وإعادة موضعة الأديان في مكانها اللائق بها وليس الانتقاص منها، فالدين مع توجُّهاته الروحيّة ليس شيئا اختياريّا زائدا على الوجود البشريّ، إنّما الدين يشكّل النواة الحَيّة الصميمية لكي يصير الإنسان أكثر إنسانيّة.
أزمة الرسومات الأخيرة تؤكّد للجميع أنّه إذا نُزِعت من الإنسانيّة هذه النواة الجوهريّة، فسقوطه في عالم روبوتيّ كلّيّ شامل يبدو أمرا محتوما.
يمكن أن تكون هذه الأزمة الأخيرة فرصة لإعادة قراءة فصول من إنسانيّتنا المُهمَلة، وفي سويداء القلب منها القيمة السامية للأديان، كمشاعل لتنوير القلب، قبل أن يكون تنويرا زائفا يغشى الأبصار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة