شهدت فرنسا عددا من العمليات الإرهابية مؤخرا، لتتربع على قائمة أعلى الدول الأوروبية التي تتعرض لهذه الأعمال.
إن ما حدث وما يحدث في فرنسا من سفك دماء الأبرياء لهو مؤلم لكل إنسان متنور، فهذا البلد الذي يقدم كل شيء إلى المهاجرين، يُقابل بعقول متحجرة لهؤلاء المتطرفين الذي يشددون على القشور ويتناسون الجوهر.
ولعلنا نتساءل، لماذا تحول هذا البلد المستنير إلى هدف للإرهابيين والمتطرفين وهو لم يتغير في نهجه منذ 1905 أي منذ سن قانون العلمانية؟ في الوقت الذي تحتضن فرنسا أكبر جالية مسلمة.
يعود السبب إلى أن بعض الوافدين إلى فرنسا لم يفهموا جوهر العلمانية الفرنسية التي تفصل بين الدين والدولة، وهي عجلة التطور في هذا البلد. وبدلا من الاستفادة من العلمانية الفرنسية التي تحترم الأديان وتعتبرها نشاطًا انسانيًا فرديًا بين الكائن وربه، يقوم المتطرفون بإشعال نار الفتنة والقتل.
وهل رّد الفعل إزاء الرسوم الكاريكاتيرية رغم إساءتها إلى مقدساتنا تستحق سفك الدماء في باريس ونيس؟
كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على حق في قوله إن "بعضًا من الجالية المسلمة يسعى إلى العزلة والانفصال والتقوقع بينما تنص القوانين واللوائح القانونية على الاندماج في المجتمع الفرنسي بكل وضوح".
إن فرنسا تعاني من هجمات إرهابية عديدة تفوق ما يحصل في عموم أوروبا من هجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة منذ عام 2015 إلى الحوادث الأخيرة في مدينتي باريس ونيس.
إن العزلة التي يعيشها البعض من الجالية المسلمة جزء من ظروف الأزمة الاقتصادية التي تمر بها فرنسا وليست مرتبطًا بالمسلمين فقط. وهو بدلاً من الاندماج في المجتمع الفرنسي يعمل على العزلة عن الثقافة الفرنسية. ولا يرتبط ذلك بالإسلاموفوبيا. وتأكيدا على احترامها للجالية المسلمة قامت فرنسا بتأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من أجل الحوار والتفاهم مع تنظيم قانوني يحمي الجالية، ويقدم لها الإطار القانوني اللازم.
مما لا شك فيه، أن فرنسا تعاني من أزمة هوية بسبب مشاكل الاندماج لدى جزء كبير من ذوي الأصول المهاجرة. وهناك مَنْ يفهم أن العلمانية تعني الإلحاد، وهو تصور خاطئ بلا شك لما تنادي به فرنسا المستنيرة التي تفصل بين الدين والدولة، أو أنها تمنع ارتداء اللباس الذي يرمز إلى الدين، وتفرض قيودا بالغة على حضور الدين في تفاصيل الحياة العامة. ويصل الحد بالمتطرفين أنهم ينظرون إلى فرنسا كبلد استعماري مسيحي منذ انخراطها في الحرب ضد المتطرفين والإرهابيين.
لم تستنفد الجالية الإسلامية من هذه العمليات الإرهابية بل أدت إلى حظر عدد من الجمعيات الإسلامية ومصادر تمويلها. لم تعمل فرنسا على التصدي للمخاطر الراديكالية بشكل حازم وهذا ما أدى إلى نمو الفكر الإرهابي في الحياة العامة الفرنسية، خاصة بعد انتشار الجمعيات والمنظمات المدنية التي تدعم التطرف. وما أطلقه الرئيس الفرنسي ايمانيول ماكرون لمواجهة ما أسماه بـ"الانعزال الإسلامي" حقيقة ساطعة لأن بعضًا من الجالية المسلمة ترفض الاندماج في الثقافة الفرنسية، وهو قانون من قوانين الجمهورية التي ينص عليها قانون منح الجنسية. لكن هناك حقيقة أخرى أن معظم الارهابيين والمتطرفين الذين يقومون بهذه العمليات الإجرامية لا ينتمون إلى الجالية أو إلى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بل هم من خارج الجمعيات المدنية والاجتماعية. وليس صحيحًا أن ايمانويل ماكرون قام بذلك لجذب اليمين المتطرف إلى جانبه في الانتخابات المقبلة.
لا يمكن في الوقت نفسه أن نعمم ما قلناه على خمسة ملايين مسلم الذين يشكلون الجالية الإسلامية التي تتكون من أطياف مختلفة من التنوّع الثقافي والفكري.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تُعاقب فرنسا لانتهاجها العلمانية طريقًا للتطور؟
إن ردود الفعل إزاء أي فعل معاد للإسلام، يجب أن لا يُقابل بسفك دماء الأبرياء بل بالقيام بتظاهرات للجالية المسلمة احتجاجًا على الرسومات الكاريكاتوية على سبيل المثال، وهو مبدأ معمول به ضمن قوانين الجمهورية، وهو أبلغ تأثيرًا على الرأي العام. لكن قصر النظر جعل البعض يتعلق بمنطق الإرهاب وطريقته في قطع الرؤوس التي تذكرنا بتنظيم "داعش" المقيت.
التعصب الديني هو آفة جميع الأديان، خاصة بعد أن فشلت مشاريع الإسلام السياسي في معظم البلدان العربية لأن رؤيتها قاصرة في تطوير مجتمعاتها. كما فشل القائمون على تسييس الإسلام كدينِ إلى أداة للصراع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة