بينما يعاني العالم من انتشار الأفكار المتطرفة ونشوء جماعات إرهابية من مختلف الديانات والأعراق، يبقى الإسلام الضحية الكبرى.
غالبية المسلمين في الشرق والغرب يعتبرون المجرم في حادثة نيس الفرنسية إرهابي، ولكن ثمة من يسعى لخلق تبريرات كثيرة لهذا الإرهاب تصور لك المجرم التونسي وكأنه ضحية للآخر الرافض له، والمستهزئ بعقيدته، وهنا يصبح الحكم مقيداً، ولا يمكننا القول صراحة، ودون زيادة أو نقصان، بأن الفعل هو إرهاب والفاعل هو إرهابي.
التبرير هنا يحتاجه من يقوم بالتقييم وليس المجرم، وكأن صاحب التقييم يخشى عقوبة المتابعين لرأيه، فهو يخاف اتهامه بالكفر، أو التقاعس عن حماية الدين، أو معاداة حقوق الإنسان، أو الفهم المغلوط للدين، أو تأييد الإرهاب أو.. أو... والقائمة تطول من التهم التي تحاصر كل من يحاول إبداء رأيه في هذا الشأن.
من يقتل بحجة الدفاع عن المقدس الديني هو إرهابي ولا مبرر لفعلته، هل يمكن أن نصف المسألة بهذه البساطة، كي نسحب الشرعية من أي شخص يذبح ويسيل الدماء بحجة حماية الدين؟ هل يمكن أن لا نبرر فعلته بأنه مريض نفسي أو عقلي، ونقول فقط إنه مجرد إرهابي ووجوده هو وغيره، يمثل الأزمة التي يعيشها الإسلام؟
لا يمكن القول بأن الإسلام كدين يعاني أزمة في نصه ورسالته وطقوسه، وللدين الإسلامي علماء يمكنهم أن يدافعوا عنه بالحجة أمام نظرائهم في الأديان الأخرى، أو أصحاب الآراء المختلفة في المعتقد ذاته، وما أكثر الشواهد على ذلك سواء في الكتب، أو في إنتاج وسائل الإعلام بكل أنواعها التقليدية والجديدة.
تبرير الإرهاب بحجة حماية العقيدة والمقدسات، هو الأزمة الوحيدة التي يعيشها البعض، هي ليست وليدة اليوم ولا يتحمل وزرها الدين كرسالة، وإنما من استخدمه لأغراض الحكم والسلطة والسياسة، لقد تسببت شخصيات وجماعات عدة بهذه الأزمة على مدار قرون، لكن اليوم من يحمل رايتها هم جماعات الإسلام السياسي فقط.
لا يخشى على دين يؤمن به أكثر من مليار وثمانمئة مليون شخص، ولا أحد يستطيع سلب المسلمين حق الدفاع عن عقيدتهم ومقدساتهم ولكن بالأدوات القانونية والحقوقية والسياسية والدينية، أما اللجوء إلى العنف والقتل، فهو إفراز لحالة غير طبيعية و خارجة عن السياق عممت على العالم الإسلامي من خلال ساسة الدين وتجاره.
إن كان الإرهاب لا دين له حقاً فلا يجب أن يكون مقبولاً لأي سبب كان، وما تبريره برد الفعل على تصريحات أو رسومات إلا اعتراف بـ"ماهيته" الإسلامية، وهي ذات النتيجة إن ربط الإرهاب بـ"المظلومية" التي يعيشها المسلمون في بلاد الغرب، أو اعتباره رداً ممكناً على الإسلامفوبيا أو تصاعد تيارات اليمين الشعبوي هناك.
ثمة من يقول إن جريمة كنيسة نيس مفبركة ومصطنعة من قبل المخابرات الفرنسية، ولكن المشكلة أن حادثة نيس واحدة من جملة جرائم مشابهة تؤكد أن الأمر واقع لا يمكن نكرانه، وهنا تأتي "لكن" أخرى لتبرر ما حدث وتعلن أن هؤلاء المجرمين لا يمثلون الإسلام، وهذا حقيقي، ولكنها أيضاً كلمة حق يراد بها باطل، كما يقولون.
"الإرهابيون" ممن يعتنقون الإسلام لم يأتوا من كوكب أخر، هم أشخاص يعيشون بيننا أخوة أو أقارب أو أصدقاء أو زملاء عمل، وبدل هذا التبرؤ المهزوز منهم دينياً، من الأفضل البحث وراء الأسباب التي حولتهم إلى إرهابيين ومعالجتها، فإن كانت نصوصا منسوبة إلى الدين يتم تفسيرها بشكل صحيح، وإن كانوا أشخاصا يقدمون إلى العدالة ويحاكمون.
لقد حان الوقت للاعتراف بأن بين صفحات التاريخ ما يساعد جماعات الإسلام السياسي على صناعة الإرهابيين ونشر ثقافة التطرف، وهذه الصفحات لم تكتب في زمن الفراعنة، أو صاغها الروم والفرس والفينيقيين أو غيرهم، هي إنتاج أشخاص عاشوا حقباً مختلفة في التاريخ الإسلامي، و توارثت الأجيال قراءاتهم الخاطئة للدين.
ثقافة التكفير والتبشير بالجنة على جثث غير المسلمين، ليست صنيعة القرن العشرين، ولم تأتِ من فراغ، هي إنتاج تراكم على مدار مئات السنين، ثم تحول إلى مناهج دراسية، ومجلدات على أرفف المكتبات، وبرامج تلفزيونية وإذاعية، وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم مواثيق جماعات إرهابية كداعش.
في هذا الموقع تحديدا هناك من تستحضره "لكن" جديدة ليقول إن الجماعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش هي صنيعة الغرب ومخابراته، بتعبير أخر، الأوروبيون هم من صنعوا هذه الجماعات والأبناء اليوم عليهم أن يحصدوا ما زرع الآباء، وبغض النظر عن قناعتك بهذا السياق، يتبادر إلى ذهنك فوراً عدة أسئلة مشروعة وبديهية.
في البداية، كيف استطاع الغرب أن يحرف ويعبث بمبادئ الدين الإسلامي، ليصنع هؤلاء القتلة والمتطرفين والمتشددين؟ على من اعتمدوا كأشخاص تبنوا الأمر ووضعوه في حيز التنفيذ؟ وعلى ماذا استندوا من نصوص ومرجعيات سهلت مهمة تجييش المسلمين، وأتاحت فرصة تعبئتهم بأفكار وقناعات حولتهم إلى "إرهابيين"؟
المشكلة في نظرية المؤامرة أنها تتجاهل سجلاً حافلا من المؤلفات التي أساءت للدين حتى قبل أن يفكر الغرب في صناعة الإسلام السياسي، تراكمات على مئات السنين لم يساهم بها الغرب لأنه ببساطة كان غارقا في مشكلاته وأفكاره الدينية الخاطئة، ولكنه تجاوزها حتى وصل اليوم إلى هذا التوازن الكبير بين الديني والدنيوي.
على المقلب الآخر، وإن أردنا التسليم بنظرية المؤامرة على الدين، فأين اختفى فجأة شعار حماية المعتقد الذي رفع في الأزمة التي بدأت بمدرس التاريخ ولن تنتهي بحادث كنيسة نيس؟ إن كان الغرب قد استغل الإسلام لأغراضه السياسية والاستعمارية في حقبة ما خلال القرن الماضي، فقد حان الوقت لتصحيح هذا الخطأ الفادح.
المعادلة بسيطة جداً، فبدل أن يرسل الإرهابيون أحدهم ليقتل "كافراً" حسب معتقده انتقاما مما فعل الغرب بالدين الإسلامي، نعالج مواطن الخراب التي صنعها الأوروبيون في معتقدنا، كي نثبت للجميع أن الدين الإسلامي ليس في أزمة، ليس هذا فقط، وإنما نفك متلازمة الإرهاب والإسلام، ونفتح الباب أمام نشر تلك العقيدة السمحاء التي نتفاخر بها.
لن تكون حادثة نيس أخر المحكات التي يعيشها المسلمون حول العالم، وقائمة "لكن" الطويلة التي تتسع عاماً بعد عام لتبرير الأعمال الإرهابية، تزيد الأمر تعقيدا على الجميع في الشرق والغرب، التبرير هو الوجه الآخر للهروب من المشكلة، والمشكلة ليست بالدعوة إلى الله، وإنما هي بمن يقتل باسم الدين، ويسفك الدماء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة