على مدى السنوات الثلاث الماضية، انتهج الرئيس التركي أردوغان سياسات مغامرة ومارقة.
في أعقاب قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة في 2 أكتوبر 2020، وجَّهت رئيسة المفوضية الأوروبية تحذيراً بأن الاتحاد قد يفرض عقوبات على تركيا إذا استمرت في ممارسة "الاستفزازات والضغوط" شرق البحر المتوسط، "وأننا نتوقع أن تمتنع تركيا من الآن فصاعداً عن الإجراءات أحادية الجانب". وأنه في حالة عدم التزامها بذلك، فإن الاتحاد الأوروبي سوف يستخدم كل الوسائل والخيارات المتاحة له.
جاء هذا التصريح بعد نقاشات مطولة بين قادة دول الاتحاد ووزراء خارجيته حول ما تُمثِّله سياسات تركيا من تهديد لأوروبا، وانتهاك لحدود دولتين من أعضائه وهُما اليونان وقبرص، واللتان تُعتبران حدوداً للاتحاد نفسه. وأن هذه التصرفات تدعو إلى إعادة النظر في التصور التقليدي لتركيا كدولة حليفة كونها عضو في حلف الأطلنطي، وفي الاتحاد الجمركي مع أوروبا.
فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، انتهج الرئيس التركي أردوغان سياسات مغامرة ومارقة أدخلته في مواجهات ليس فقط مع الدول الأوروبية، وإنما أيضاً مع الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي. ومن أهم الأمثلة الخلاف بشأن إعلان تركيا عن صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي الصاروخية الروسية S-400 في 2017، والذي اعتبرته واشنطن تهديداً لأمن حلف الناتو، ومع تسلُّم تركيا أول أجزاء المنظومة في 2019، قررت الإدارة الأمريكية استبعاد تركيا من البحوث الخاصة بتطوير طائرة فانتوم 35، وأعرب الأمين العام للحلف عن قلق أعضائه تجاه السلوك التركي لأنه يُمثِّل "مخاطرة للناتو". ورغم هذه التحذيرات، قام الجيش التركي باختبار محدود لهذه المنظومة في البحر الأسود بالقرب من مدينة سينوب يوم 16 أكتوبر 2020.
وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد تنوعت القضايا محل النزاع مع تركيا. ففي ليبيا، أرسلت الحكومة التركية أسلحة ومعدات عسكرية إلى الميليشيات المتطرفة فيها وذلك بالمخالفة لقرار مجلس الأمن، ورفضت السفن التركية المتجهة لطرابلس الانصياع للتفتيش للتأكد من عدم حملها للسلاح وذلك ضمن عملية "إيريني" التي يديرها الاتحاد الأوروبي لمنع وصول الأسلحة إلى ليبيا. وقامت بتوقيع معاهدة لترسيم الحدود مع حكومة طرابلس دون اعتبار لوجود الجزر اليونانية ضمن هذه الحدود. ونقلت آلاف المرتزقة للقتال مع الميليشيات المتطرفة، وأقامت قواعد عسكرية لها.
تتمثل مصلحة تركيا في استمرار القتال بين الليبيين لأن ذلك هو مُبرر وجودها وتمدد نفوذها. لذلك فقد انزعجت من نتائج المباحثات بين الفرقاء الليبيين- وأقصد المجلس التشريعي في بنغازي ومجلس الدولة في طرابلس- والتي جرت في المغرب ومصر، ووصولها إلى تفاهمات إيجابية تضع الأساس لمزيد من التقارب بين الطرفين. فتدخلت للتأثير على جهود الأمم المتحدة في الوصول إلى تسوية سلمية، وكان من آخر مظاهر هذا التدخل ما حدث أثناء مباحثات جنيف (5+5) بين الليبيين والرامية إلى تثبيت وقف إطلاق النار، باستدعائها وزير دفاع ورئيس أركان حكومة طرابلس إلى تركيا في أكتوبر 2020.
وفي شرق البحر المتوسط، قامت السفن التركية "أوروتش رئيس ويافووز وبربوس باشا" بالتنقيب عن الطاقة في مياه تابعة لقبرص واليونان، ثم سحبت إحداها في 19 سبتمبر 2020 وأعادتها مرة أخرى للعمل في نفس المنطقة حتى يوم 27 أكتوبر2020 ثم مددت فترة العمل إلى أكثر من ذلك.
وقامت تركيا بتصعيد الموقف مع قبرص من خلال تنظيم مناورات بحرية عسكرية مع الكيان المُسمى "جمهورية قبرص الشمالية" التي لا تعترف بها أي دولة في العالم سوى تركيا. وزاد التوتر بإعلان رئيس هذا الكيان خلال اجتماع له مع أردوغان عن إعادة افتتاح شاطئ "فاروشا" بعد إغلاقه لمدة 46 سنة. وهو ما أثار ردود فعل غاضية في قبرص واليونان اللتين أدانتا هذا القرار وطرحتا الموضوع للبحث في اجتماعات الاتحاد الأوروبي المُقبلة.
وإلى جانب السلوك التركي الخارجي، كان هناك ممارسات سياسية داخلية أبعدت تركيا عن أوروبا. فمن عام 2016، أحكم أردوغان قبضته المنفردة على كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية، وضيَّق من الحريات العامة فاعتقل زعماء المعارضة، وهاجم أنصاره مقارهم. وقيد من حرية الصحافة وتم فصل عشرات الآلاف من المدرسين وأساتذة الجامعات والقضاة وضباط الجيش. وتم تعديل الدستور ليركز السلطة في يده.
وترافق كل ما تقدم مع عدة تطورات تكشف حقيقة الدور التركي في المنطقة منها اتضاح علاقات التعاون بين السلطات التركية وتنظيم "داعش" الإرهابي وأن تركيا كانت مركزاً لتجنيد وتجميع عناصر التنظيم الإرهابي قبل سفرهم إلى سوريا وأنها وفَّرت "ممرا آمنا" لهم للانتقال بين البلدين لسنوات طويلة. ومنها تبنِّي تركيا لأحزاب الإسلام السياسي ودعمها السياسي والمادي لعناصره. ومنها ازدياد نفوذها السياسي بين الجماعات المسلمة في أوروبا من خلال دعمها للتنظيمات الإسلامية المتشددة فيها، وتمويلها لشبكة من المساجد التي تنشر أفكار التشدد، وترصد تحركات معارضي أردوغان.
وكان من شأن هذه التطورات الخارجية والداخلية، تغيير صورة تركيا في كثير من الدوائر الأوروبية، وتساؤل أعداد من السياسيين وأعضاء البرلمانات عما إذا كانت تركيا ما زالت تعتبر حليفاً أم لا؟ وبدأ الحديث حول نوع العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تُفرض عليها، وعما إذا كانت سوف تشمل عقوبات على الشركات التي تقوم بالتنقيب عن الطاقة خارج الحدود التركية، أو تجميد عضويتها في الاتحاد الجمركي؟
وحتى الآن فما زالت تركيا مستمرة في اتباع نهجها الأحادي الاستفزازي. فماذا سوف يفعل القادة الأوروبيون في اجتماعهم القادم في ديسمبر 2020؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة