تأتي الجريمة التي نفذها شيشاني متطرف بحق مدرس فرنسي في باريس، في الوقت الذي تحاول فيه السلطات الفرنسية السيطرة على حالة التمدد.
أحدثت جريمة ذبح مدرس التاريخ الفرنسي صامويل باتي على يد متطرف شيشاني صدمة كبيرة لدى الفرنسيين، بالنظر إلى بشاعتها وتوقيتها الذي جاء بعد نحو أسبوعين من خطاب مطول للرئيس الفرنسي حذر فيه من خطر جماعات الإسلام السياسي وخطابها المتطرف المناهض لمبادئ الجمهورية الفرنسية العلمانية، وبعد نحو ثلاثة أسابيع من اعتداء آخر نفذه شاب باكستاني بساطور تسبب بإصابة شخصين أمام المقرّ القديم لصحيفة "شارلي ايبدو" التي تعرضت لاعتداء إرهابي دموي عام 2015، ما يعني أننا أمام أزمة تعانيها فرنسا نتيجة خطابات التطرف والكراهية وليست مجرد حوادث منفصلة.
ولعل أخطر ما في هذه الجريمة الأخيرة هو دلالتها الكاشفة عن استمرار خطر التنظيمات الإرهابية التي تمارس العنف وتحرض عليه، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت جميع التنظيمات الإرهابية والمتطرفة الأخرى من عباءتها وتأثرت بفكرها بشكل أو بآخر، حيث تحدث وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان عما وصفها بأنها "فتوى ضد المدرس" صدرت من بعض الأشخاص المشتبه بهم، ومن بينهم الناشط الإسلامي المتطرف عبد الحكيم الصفريوي، الذي يرأس "جماعة الشيخ ياسين"، والمقرب من تنظيم الإخوان، ليقترب الوزير بذلك من وضع الإصبع على الجرح أو المروج الحقيقي والأهم للفكر المتطرف الذي يُترجمه بعض المتطرفين إلى جرائم إرهابية على أرض الواقع.
لقد جاء تنفيذ هذه الجريمة البشعة في خضم حالة استنفار واسعة ومبررة في الداخل الفرنسي ضد كل تنظيمات الإسلام السياسي وعلى رأسها تنظيم الإخوان، وهي حالة بدأت قبل فترة مع تنامي الإحساس الفرنسي بخطر هذه التنظيمات وضرورة مواجهتها. ففيشهر نوفمبر 2019، تم تأسيس لجنة مكافحة تطرف الإسلام السياسي بمبادرة من حزب الجمهوريين بمجلس الشيوخ، وفي شهر يوليو الماضي، قدمت لجنة برلمانية بمجلس الشيوخ الفرنسي 44 مقترحاً لمكافحة خطر المد الإخواني ضمن تقرير عرض لمخاوف ومخاطر انتشار تطرف الإسلام السياسي في البلاد، وذهب التقرير إلى حد الحديث عن سعي الإسلام السياسي، المقصود به تيار الإخوان المسلمين، إلى محاولة إعادة "إحياء الخلافة"، مشيراً إلى أن تنظيم الإخوان يتغلغل في جميع جوانب الحياة الاجتماعية مستفيداً من أجواء الحرية الفردية.
وقبل صدور تقرير مجلس الشيوخ بأيام وصف وزير الداخلية الفرنسي تيار الإسلام السياسي بأنه "العدو القاتل للبلاد"، متخذاً رئيس مكافحة الإرهاب ذراعاً يمنى له لمواجهة هذا التهديد، فيما جاء الخطاب المطول للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي ألقاه في مطلع أكتوبر الحالي حاسماً في ضرورة التصدي لما وصفه بـ"الانعزالية الإسلامية" التي تغذيها هذه الجماعات، وسعيها إلى ما وصفه بـ "إقامة نظام موازٍ" في فرنسا، وتأليب الجاليات الإسلامية ضد سلطات هذا البلد وزرع الكراهية في نفوسهم تجاهه.
في هذا السياق، جاءت الجريمة البشعة بحق المدرس الفرنسي لتزيد من غضب الفرنسيين المبرر وحملتهم ضد كل تنظيمات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان، حيث أشارت الرئاسة الفرنسية إلى أنّ وزيرَي الداخليّة والعدل، قدّما "خطّة عمل ستُنفّذ خلال أسبوع" وستُتّخذ بموجبها "إجراءات ملموسة" ضدّ أيّ مجموعات وأشخاص قريبين من "الدوائر المتطرفة" ينشرون دعوات كراهية يمكن أن تُشجّع على تنفيذ هجمات. كما فتحت السلطات أكثر من 80 تحقيقا بشأن الكراهية عبر الإنترنت.
ومع الأخذ بعين الاعتبار الصدمة التي أحدثتها هذه الجريمة وحالة الغضب التي خلفتها لدى الفرنسيين، فإن هذا لا يشكل مبرراً لموجة التطرف المقابل التي قامت بها بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تمثلت بإعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص). فالتطرف لا يواجه بالتطرف، وهذه الممارسات التي لا تحترم الرموز المقدسة لدى المسلمين تخدم بصورة كبيرة أجندة المتطرفين الذين يفترض أن تواجههم الدولة الفرنسية.
إن هذه الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق المدرس الفرنسي، وموجة التطرف المقابل التي قوبلت بها وتضمنت إساءات غير مبررة لرمز ديني مقدس لدى المسلمين، والجرائم التي سبقتها ولاسيما جريمة الاعتداء على صحيفة "شارلي إبيدو" الفرنسية عام 2015، إنا تأتي تأكدا لأمرين مهمين، الأول هو أهمية وضرورة تعزيز التعاون الدولي في مواجهة جرائم الكراهية والتطرف التي تنشرها تنظيمات الإسلام السياسي وغيرها من التنظيمات المتطرفة عبر العالم بما فيها قوى اليمين المتطرف. والثاني، أهمية التحرك الفرنسي والغربي لحظر تنظيمات الإسلام السياسي المتطرفة ولاسيما تنظيم الإخوان، الذي بدأت الدول الغربية تكتوي بنيران تطرفه، والثالث ضرورة احترام قدسية الأديان والرموز الدينية لأن التعرض لها يؤجج عوامل الكراهية والتطرف ويخدم مصالح المتطرفين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة