فرنسا وأفريقيا.. محطات وعقبات
محطات مشحونة بالعقبات والتحديات، تشكل السمة الأبرز للعلاقات بين فرنسا وأفريقيا؛ القارة التي تسعى باريس لتصحيح مسارها فيها.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدأ جولته الأفريقية الأولى له بولايته الثانية، في ظل وضع معقد لطالما طغى على علاقات باريس مع مستعمراتها السابقة.
ومن خلال جولته، يسعى ماكرون إلى تجديد التزام فرنسا تجاه دول القارة السمراء، والتأكيد على نفوذ باريس في وقت يتزايد فيه التوجّه العالمي نحو قارة غنية بالموارد وتعتبر سلة اقتصاد العالم المستقبلي.
تحديات
يعد أحد أهم التحديات التى يواجهها ماكرون، هو رفض الماضي الاستعمارى لبلاده فى تلك الدول.
ووفقا لتقرير نشرته "دويتش فيلة"، كلف الرئيس الفرنسي شارل ديجول، العام 1962، مستشاره جاك فوكار بصياغة علاقة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في أفريقيا.
وأطلق البعض على فوكار لقب "مهندس الاستعمار الفرنسي" الحديث للقارة السمراء، وكانت تلك العلاقة بين القادة الفرنسيين والنخب في البلدان المستقلة حديثاً "غير شفافة وأبوية وفيها تحكم"، بحسب التقرير.
وحينها، أبرم فوكار عقوداً مع حكام نلك البلدان لا تزال سارية حتى اليوم: مقابل الحماية العسكرية والحماية من الانقلابات وأيضا مقابل ملايين الدولارات كعمولات ضمنت للشركات الفرنسية استغلال الموارد الاستراتيجية للقارة كالماس واليورانيوم والغاز والنفط.
والوجود الفرنسي ملحوظ اليوم في القارة: 1100 شركة كبرى، و2100 شركة صغرى وثالث أكبر محفظة استثمارية بعد بريطانيا والولايات المتحدة.
ويتهم الباحث يان تايلور، في حديثه مع "دويتش فيلة" الفرنسيين بإعادة ضخ الأموال الأفريقية التي تأتي إلى خزينتهم من جديد على شكل مساعدات تنموية، ما يقوي من نفوذهم في المنطقة".
إصلاح
وبحسب تقرير نشرته "بي بي سي"، شرعت حكومات فرنسية، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، في عملية إصلاح للعلاقات مع أفريقيا وإعطاء أولوية أكبر للتنمية والحكم الديمقراطي.
لكن هذه التحركات التي لاقت زخمًا في البداية واجهت بعد ذلك عقبات.
وفي عام 2007، بدأ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ولايته بتصريح افتقر إلى كثير من اللباقة قال فيه إن "الإنسان الأفريقي لم يدخل التاريخ حتى الآن كما ينبغي".
وفى زيارته للسنغال خلال العام نفسه، اعترف ساركوزي بأن "الاستعمار كان خطأ كبيرا في أفريقيا"، لكنه لم يتردد في التأكيد أيضا على أن "الاستعمار ليس مسؤولا عن كل المصاعب التي تواجهها القارة حاليا".
وحاول ساركوزي، في يونيو/ حزيران ٢٠١٠، إصلاح العلاقات في محاولة لاستعادة الدور الفرنسي المتقلص في القارة السمراء، وأعرب خلال فعاليات القمة الأفريقية - الفرنسية الخامسة والعشرين في مدينة نيس، عن رغبته في حصول القارة الأفريقية على تمثيل دائم في مجلس الأمن.
وقد فضّل ساركوزي التعامل مع حلفاء قدامى على غرار أسرة علي بونجو التي تحكم الجابون منذ زمن.
وعندما تولى فرانسوا أولاند رئاسة فرنسا عام 2012، لم يكن أمامه من خيار سوى التركيز على القضايا الأمنية في منطقة الساحل جنوب الصحراء، غير أنه لم يمتلك القوة السياسية لإنعاش جهود الإصلاح.
لكن مع دخول ماكرون قصر الإليزيه، أصبح لفرنسا رئيس على دراية تامة بالحاجة إلى التغيير، ففي عام 2017، قال الرئيس الفرنسي في لقاء مع طلاب في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، إن باريس مستعدة لدعم إصلاح خاص بالفرنك الأفريقي إذا أرادت الحكومات الأفريقية ذلك.
كما وجّه ماكرون دعوة إلى المجتمع المدني والشباب والمثقفين لحضور قمة فرنسا-أفريقيا في ذلك العام بمدينة مونبلييه.
ووفقا لتقرير "بي بي سي"، فإن الرئيس الفرنسي زاد مقدار مساعدات بلاده إلى القارة السمراء؛ وبدأت عملية إعادة الآثار المنهوبة إبان الحروب الاستعمارية؛ وعزز ماكرون العلاقات مع ما هو أبعد من الحكومات - مع منظمات المجتمع المدني في تلك الدول.
وأبقى ماكرون على قوات فرنسية في منطقة الساحل الأفريقي لمكافحة الإرهاب؛ كما دعم التكتّل الاقتصادي لدول غرب أفريقيا "إيكواس" في محاولاته للدفاع عن سياسة الانتخاب بمواجهة هيمنة العسكريين.
والعام الماضي، أجرى ماكرون زيارة إلى رواندا، وهناك اعترف علانية بفشل فرنسا في القيام بمسؤولياتها حيال الإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994.
لكن رغم ذلك، لاتزال فرنسا تتعرض لموجات من الانتقادات الشديدة من داخل مجتمعات وشعوب مستعمراتها الأفريقية السابقة.
التغيير
دراسة أجراها الباحث في إدارة السياسة والعلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد، الدكتور كورنتين كوهين، خلصت إلى أن إستراتيجية ماكرون الخاصة بالشراكة المتبادلة مع أفريقيا عبر إعادة التواصل الدبلوماسي بين كل الأطراف سعيا لمحو آثار الاستعمار الفرنسي فى تلك الدول، لم تنجح.
ووسط اهتمام قوى مثل الصين بالقارة السمراء، فشلت إستراتيجية باريس التى قامت على ضخِّ المزيد من المساعدات ودفع العلاقات بين الفرنسيين والأفارقة على أساس روح من الشراكات، ولم تحقق هدفها الخاص بتعميق العلاقات الاقتصادية والأمنية بشكل كاف وهو ما استدعى تطوير استراتيجية ماكرون للعلاقات الفرنسية مع الدول الأفريقية.
ومن بين أسباب فشل استراتيجية باريس فى أفريقيا، هو سياستها الأمنية في منطقة الساحل، بالإضافة إلى عدم وضع طرق فعّالة للقضاء على التطرف.
لكن مع ذلك، فرغبة الإصلاح لا تقتصر فقط على الجانب الفرنسي، إذ أن تلك الدول الأفريقية هى الأخرى لديها دوافع لتحسين العلاقات وتطويرها.
فرغم التاريخ الاستعماري لفرنسا، فإن باريس تستطيع مساعدة الدول الأفريقية على تعزيز أوضاعها المالية، بالإضافة إلى توسيع نطاق الاستثمارات والمساعدات لا سيّما في المجال الصحي.
كما يمكن لفرنسا إتاحة الفرصة لشباب ومواطني المستعمرات السابقة الالتحاق بنظام التعليم العالي الفرنسي.
ووفقا لمحللين، فإنه من أجل تصحيح استراتيجية فرنسا، يجب على ماكرون التصدي لتحديات بيروقراطية وتعقيدات من داخل الدوائر السياسة الخارجية، التي أدّت إلى تباطؤ تحقيق سياساته.