فرنسا تشهر سلاح «الدفاع الرقمي».. معركة مفتوحة ضد «جيوش التضليل»
لم تعد فرنسا تتعامل مع الفضاء الرقمي باعتباره ساحة جانبية أو مجالاً تقنياً محايداً، بل بات في نظر باريس امتداداً مباشراً للأمن القومي، بموازاة الدفاع العسكري والدبلوماسية التقليدية.
فمع تصاعد الهجمات المعلوماتية وتنامي جيوش التضليل الأجنبية، كشفت الدولة الفرنسية عن تحول استراتيجي واضح عبر الانتقال من موقع المتفرج إلى فاعل يبادر ويصد من خلال استراتيجية احتوائية للدفاع عن "أمن المعلومات الوطنية".
وتعكس تصريحات المسؤولين والتقارير الصادرة عن مراكز البحوث الفرنسية إدراكاً متزايداً بأن حرب الأكاذيب باتت معركة سياسية واجتماعية تهدد استقرار الجمهورية من الداخل.
وفي قلب هذا التحول، تتقدم مبادرات جديدة تتراوح بين إنشاء "احتياط دبلوماسي" لمواجهة الحملات المضللة، وإشراك المؤثرين الرقميين في الدفاع عن الرواية الفرنسية، وصولا إلى تطوير قدرات الكشف المبكر عن الهجمات المعلوماتية.
أحدث الأمثلة كان التعامل الحاسم مع فيديو مزيف استهدف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما اعتبر دليلا إضافيا على اتساع نطاق الحرب الخفية التي تخاض على الشاشات.
ونقلت صحيفة "لسكبريس" الفرنسية تصريحات لمسؤول فرنسي كبير في الدبلوماسية قوله: "هناك أمور تفعل خلف الستار… وأنت لا تراها".
بهذه العبارة تلخّص باريس تحوّلها الجديد في الحرب على المعلومات المزيفة والتلاعب الإعلامي.
تحول استراتيجي
ويرى جوليان نوستي، الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والمتخصص في الجيوسياسية الرقمية، وحروب المعلومات، في حديث لـ"العين الإخبارية" إن ما نراه في باريس ليس مجرد رد فعل، بل تحول استراتيجي، بالاعتراف بأن الفضاء الرقمي اليوم جزء من أمن الدولة، والحرب ضد الأكاذيب لا تقل أهمية عن الدفاع العسكري.
وأوضح أن "دخول فرنسا في معركة مضادة للتضليل لم يعد خياراً، بل ضرورة أمنية. خلال السنوات الماضية، تطورت قدرات الجهات الخارجية، وعلى رأسها روسيا، من حملات دعائية بدائية إلى عمليات رقمية معقدة تستهدف الجمهور الفرنسي مباشرة".
وأشار إلى أن ما تقوم به باريس اليوم هو انتقال من مرحلة "رد الفعل" إلى بناء قدرة استراتيجية دائمة للدفاع المعلوماتي، تشبه ما فعلته بلدان أوروبية أخرى كفنلندا.
واعتبر نوستي أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في كشف الأكاذيب، بل في قدرة الدولة والمجتمع على تعزيز المناعة الرقمية لدى المواطنين، موضحاً أنه "إذا لم تتطور ثقافة إعلامية جديدة، فستظل الديمقراطية الفرنسية عرضة للتقويض عبر بضع مقاطع فيديو مفبركة تنتشر في ساعات قليلة".
وأضاف أن إشكالية "الدبلوماسية الرقمية" أنها في ذات الوقت ضرورية ولكن تحمل مخاطرة بتفكيك إعلام الكراهية قد يتطلب الكشف عن طرق وأساليب الخصوم، ما قد يعطيهم فرصة لتغيير تكتيكاتهم.
وتابع:" أنه من دون هذا الرد المنسق، تبقى الدول الأوروبية عرضة للتلاعب، وقد تتحول المعلومات إلى سلاح يزعزع أمنها الداخلي ويضعف وحدتها. فرنسا اليوم ترسل رسالة واضحة لن نبقى متفرجين".
"الاحتياط الدبلوماسي"
وفي صيف 2025 أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية عن إنشاء ما سُمّي بـ احتياط دبلوماسي" مدني، والهدف هو دعم الدبلوماسية الفرنسية، حماية المواطنين والإشراف على الأزمات الخارجية، وأهم من ذلك مواجهة الحملات الإعلامية التضليلية.
وأضاف نوستي أن المجندين في هذا الاحتياط (مطلوب أن يكونوا في 18 عاماً أو أكثر) سيقومون بمهام منها مراقبة الأخبار الكاذبة على شبكات التواصل وتعزيز رواية فرنسا دولياً.
ورأى أن هذا القرار يمثل نقلة نوعية من دبلوماسية كلاسيكية إلى دبلوماسية رقمية حيث تعتبر الحرب الإعلامية جزءاً من خارطة الأمن القومي.
وفي مايو 2025، ثارت ضجّة بعد تداول فيديو مزيف يظهر الرئيس ماكرون في قطار يبدو فيه وكأنه يحمل "كيس كوكايين" ما تبين لاحقاً أنه "مجرد منديل".
ورد قصر الإليزيه كان سريعا وحاسما: "هذا منديل … ليس أكثر"، معلناً أن الفيديو جزء من "حملة تضليل" تستهدف فرنسا، تم نسب الهجوم الإعلامي جزئياً إلى روسيا التي تنفي مرارا هذه الوقائع وتؤكد عدم تدخلها في شؤون الدول الأخرى.
ومنذ 2023، أعلنت السلطات أن هذا النوع من "حروب المعلومات" لم يعد مجرد تهديد نظري، بل أصبح واقعاً ملموساً يستهدف الديمقراطية والنسيج الاجتماعي، خاصة في سياق الحرب في أوكرانيا والنزاعات الدولية.
وأحد أبرز ملامح الاستراتيجية الفرنسية الجديدة، هو إشراك "مؤثرين" شباب لديهم متابعون على الإنترنت، لتوصيل الرواية الرسمية "ماكرون، ما فرنسا، ما الحقيقة الرقمية".
وفي يوليو/تموز 2025، التقى بعض هؤلاء المؤثرين بوزارة الخارجية في مبنى وزارة الخارجية، ليس كدبلوماسيين، بل كمراسلين رقميين، وهو مؤشر على أن الدولة باتت ترى الإنترنت كأرض حرب تحتاج دفاعاً نشطاً.