هو القادم.. فرانسوا فيون، فهل سيشكل انقلاباً فرنسياً كما شكّل دونالد ترامب في واشنطن؟
هو القادم.. فرانسوا فيون، فهل سيشكل انقلاباً فرنسياً كما شكّل دونالد ترامب في واشنطن؟
سؤال تتبدى أهميته بقدر ما اعتبرنا أن العدوى لن تتوقف عند حدود فرنسا، بل ستنتقل إلى ألمانيا، ومن ثم إلى سائر الدول الأوروبية. ترامب عاد إلى الحمائية الأمريكية. والمتابع لانتخابات فرنسا، ولبرنامج فيون كما ظهر على موقعه الانتخابي، ولتصريحاته المختلفة، يرى أنه سيمثل عودة إلى الديغولية في شكل مطور متأقلم مع المتغيرات.
فهو لا يرفض أوروبا، بل على العكس يطالب بأن تقوم كل الدول بدورها لجعل المجموعة أكثر فاعلية على الساحة الدولية. أما على صعيد التنظيم فهو يقول إنه يريد أوروبا ذات مؤسسات أكثر فاعلية مع عودة دور المفوض الأوروبي واختصار صلاحيته على بضعة مجالات. لكنه لا يريد أوروبا ما فوق السيادة الوطنية لدولها، منضماً بذلك إلى تيار السياديين الذين يشكلون شريحة عريضة من الجمهور الفرنسي تتوزع على اكثر من حزب. ما يشكل عودة عن الأوربة المطلقة، والأطلسة المطلقة، ووفاء للرؤية الديغولية الاستقلالية في المجالين.
غير أن رؤيته الأوروبية لا تنفصل عن الجانب الاقتصادي، حيث يبدو أن ثمة تياراً عالمياً لم يعد فيه أحد يريد تحمل تكاليف مالية عن أحد. ففي حين يلوح ترامب بوجوب مساهمة أعضاء الأطلسي في تكلفة حلفهم، وحمايتهم، وتخلص أمريكا من عبء تكاليف حماية الجميع، يرى فيون أنه من غير المنطق أن تتكفل فرنسا وحدها تكاليف الحرب على الإرهاب في الساحل الإفريقي، كما يطالب بوزارة مالية أوروبية، وبتوحيد للديون. فليس من المنطق أن يدعو إلى شد الأحزمة داخلياً، في موضوع العمل، والبطالة، والتعليم، والتقاعد، والضرائب، ولا يدعو إلى ذلك في النفقات الخارجية.
الرؤية السيادية للرجل تترجم نفسها في مجال غير اقتصادي، حيث يقترح إنشاء المجلس الفرنسي للطائفة الفرنسية المسلمة، بشكل مختلف عن ذلك الذي أنشأه ساركوزي، بحيث كان تعيين أعضاء هذا المجلس يتم بطريقة تعطي السلطة عليه لدول أجنبية، غير أن منع التمويل الأجنبي لا يعني أعباء إضافية على الدولة، وإنما يجب تمويله من جيوب مسلمي فرنسا (كما هو حال الطوائف الأخرى)، كما «يجب أن يدار المجلس الجديد بيد رجال ونساء ولاهوتيون محترمين، ويصلحون كوسطاء»، بحسب ما قاله لجريدة «لو فيغارو». وقد فاجأ الجميع بأنه لا يرى أية مشكلة في ارتداء الرموز الدينية (بما فيها الحجاب).
الاستقلالية الوطنية التي تطال الاقتصاد والسياسة والثقافة، بما فيها الدين، تحدّد منطقياً موضوعة الهجرة، حيث يربطها ب«كوتا» تتوقف على قدرة البلد على الاستيعاب والاندماج، ولأجل ذلك يقول بتشديد حدود تشينغن، ولكنه يصر على منع عودة «الجهاديين» الفرنسيين.
إذاً، فإلى أين يذهبون؟ وهل كتب علينا في العالم العربي أن نكون مصفاة لكل مرضى العالم (كما كتبت في هذه الزاوية عام 2010)؟ وإذا كان في قدرة فرنسا أن تخصص 12 مليار دولار للأمن - كما يقول وينوي - إضافة إلى جمع الشرطة والأمن العام والجمارك والإدارة الجنائية في إدارة واحدة، وزيادة السجون التأهيلية، فأية قدرة لدى دولنا المدمرة على مقاومة ظاهرة الإرهاب؟
لكأن الديغولي الجديد يقول إنه رب بيت نموذجي سيلتفت إلى أسرته بكل من فيها، ويقفل الأبواب أمام كل التدخلات الخارجية ليعالج أزماتها، من دون أن يعني ذلك غياب سياسة خارجية واضحة، فوريث الديغولية يعرف جيداً بعد الجيوبوليتيك، فبعد البعد الأوروبي يأتي البعد المتوسطي والروسي. تثبيتاً للمقولة الشهيرة إن قدر أوروبا أن تمتد بين الأطلسي والمتوسط. هذا المتوسط الذي لم يعد مجرّد بحيرة استراتيجية ثقافية، كما رآه ديغول، وإنما تبدى أيضاً كمستودع هائل للغاز، عصب كل الصراعات الحالية.
هنا فشلت سياسة ساركوزي في الهيمنة أولاً عبر الاتحاد لأجل المتوسط، ثم عبر ليبيا، كما فشلت سياسة شيراك وهولاند في مد الأنف عبر سوريا، وذاك ما عبر عنه فيون بقوله «لقد وضعنا خارج اللعبة على المسرح الديبلوماسي منذ صيف 2013، ومنذها وضعنا جانباً من قبل الأمريكيين والروس الذين لم يعودوا يشركوننا في محادثاتهم، والحل أنه لا يزال هناك وقت لإعادة وضع بلادنا في قلب اللعبة».
كيف سيعود؟ عبر علاقاته الوثيقة مع روسيا؟ هذا ما يبدو واضحاً في كل تصريحاته وتقديراته لروسيا، ولزعيمها الذي تربطه به علاقات وثيقة، وتقدير عال قد يشكلان رافعة له في معركته. يستتبع ذلك تغيير مسار سياسته إزاء سوريا، حيث يقول في حوار مع لوفيغارو: «هناك معسكران لا ثلاثة، كما يقال: معسكر الذين يريدون إقامة نظام إسلامي شمولي والآخرون. أنا اختار الآخرين». اختيار سيتبلور في إعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق، وقد بدأت طلائع الوفود النيابية المؤيدة له بتمهيد الطريق. كما سيتبلور بعلاقات سلبية مع الإخوان المسلمين في امتدادهم العولمي، وله قواه في فرنسا، كما في سائر أوروبا.
بعض المفردات تبدو شبه ملزمة، وإلا سحبت مارين لوبان البساط من تحت قدمي يمين الوسط انسجاماً مع المزاج الشعبي. وبعضها الآخر يعبر عن قناعات قاتل لأجلها فيون منذ كان رئيساً للوزراء. ولكن الأهم أنها كلها تؤشر إلى عودة قومية تعددية، هي جوهر الهوية والقيم الجمهورية.
انتهت العولمة بصيغتها التي استقرت عام 1991، ولن يغير في الأمر شيئاً بضع تظاهرات يحركها المتضررون.
* نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة