بوركينا فاسو وكوت ديفوار.. توتر بلكنة فرنسية في غرب أفريقيا

توتّرت العلاقات بين كوت ديفوار وبوركينا فاسو على خلفية توقيف الأخيرة ستة موظفين إيفواريين قبل نحو شهرين، في واقعة أعادت واغادوغو التذكير بها الأحد الماضي.
ويعتقد مراقبون أنه، إلى جانب القضايا الإقليمية، تبدو العلاقات المتوترة بين بوركينا فاسو وكوت ديفوار نتاج خلاف أعمق حول الموقف من النفوذ الفرنسي في المنطقة.
ويقول الخبير المصري في الشؤون الأفريقية الدكتور رامي زهدي إن الأزمة بين البلدين تفجّرت إثر اتهامات وجهتها واغادوغو إلى أبيدجان باحتضان معارضين ومراكز عمليات تهدف إلى زعزعة استقرار بوركينا فاسو.
وأوضح زهدي لـ"العين الإخبارية" أن توقيت التصعيد، الذي جاء بعد أيام من زيارة الرئيس الإيفواري الحسن واتارا إلى باريس ولقائه بالرئيس إيمانويل ماكرون، جعل كثيرين يربطون بين الحدثين ويطرحون تساؤلات حول مدى ارتباط التوتر الحالي بطبيعة العلاقة بين أبيدجان وباريس.
واضطرت فرنسا إلى الانسحاب من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وهي الدول الأفريقية الثلاث التي شهدت انقلابات عسكرية، وجمعها نفورٌ من استمرار النفوذ الفرنسي في غرب القارة.
وقبل أيام، أكد قائد المجلس العسكري في بوركينا فاسو، الكابتن إبراهيم تراوري، اعتقال ستة موظفين إيفواريين نهاية أغسطس الماضي، متهمًا إياهم بعبور الحدود "بشكل غير قانوني" وممارسة أنشطة وصفها بـ"التجسس"، في خطوة من شأنها أن تزيد من حدة التوتر القائم مع كوت ديفوار.
وقال تراوري، في مقابلة بثها التلفزيون الرسمي الأحد الماضي، إن عناصر من القوات المساندة للجيش أوقفوا الموظفين الستة العاملين في المديرية الإيفوارية للمساعدة في شؤون اللاجئين وعديمي الجنسية، بعد أن "تجاوزوا الحدود" إلى داخل الأراضي البوركينية، مضيفًا: "كل من يعبر الحدود ويقوم بأنشطة من هذا النوع، فهذا تجسس، ومن الطبيعي أن يتم توقيفه والتحقيق معه".
وذكّر بأن هذه ليست المرة الأولى التي يُوقَف فيها إيفواريون داخل بلاده، مشيرًا إلى اعتقال عناصر من الحرس الإيفواري في سبتمبر/أيلول من العام الماضي ويونيو/حزيران المنصرم قبل أن يتم الإفراج عنهم لاحقًا.
رفض الاتهام
من جانبها، رفضت الحكومة الإيفوارية اتهامات الرئيس البوركيني بوجود "أعداء لبوركينا فاسو" على أراضيها، مؤكدة أن ستة من مواطنيها الموقوفين في واغادوغو هم موظفون مدنيون كانوا يؤدون مهام إنسانية، ولا صلة لهم بأي أنشطة استخبارية.
وتحتضن كوت ديفوار حاليًا أكثر من سبعة ملايين أجنبي، بينهم نحو ثلاثة ملايين بوركيني، مما يجعلها إحدى أكثر دول المنطقة استقبالًا للجاليات الأفريقية.
كما تشترك بوركينا فاسو وكوت ديفوار في حدود تمتد لنحو 600 كيلومتر، تُوصَف بأنها "هشّة وغير مرسومة بدقة"، مما يجعلها مسرحًا متكررًا لحوادث توقيف متبادلة.
وأشار الخبير المصري إلى أن فرنسا، التي انسحبت عسكريًا من بوركينا فاسو والنيجر ومالي، أعلنت أيضًا مطلع العام الجاري انسحاب قواتها من قاعدة "بورت بويت" في كوت ديفوار.
ورغم ذلك، أوضح أن العلاقات بين باريس وأبيدجان لم تنقطع، بل أُعيدت صياغتها بشكل جديد يقوم على الشراكة الاستراتيجية والتعاون الاقتصادي والأمني غير المباشر، موضحًا أن هذه العلاقة المتجددة جعلت كوت ديفوار تبدو، في نظر الأنظمة العسكرية المجاورة، وكأنها آخر الحلفاء التقليديين لفرنسا في غرب أفريقيا.
ولفت إلى أن هذا ما يثير حساسيات أيديولوجية وسياسية لدى أنظمة رفعت شعار "التحرر من الوصاية الفرنسية"، كحال نظام الرئيس إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو.
تحالف ضمني
وأضاف زهدي أن أبيدجان تسعى من جانبها إلى تأكيد قدرتها على إدارة أمنها القومي دون الارتكاز على الوجود الفرنسي المباشر، لكنها في الوقت نفسه لا تريد القطيعة مع باريس، خاصة أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين ما زالت وثيقة، مبينًا أن فرنسا تُعَدّ من أبرز شركاء كوت ديفوار في مجالات البنية التحتية والطاقة والتمويل.
في المقابل، ترى واغادوغو أن استمرار هذا التقارب الإيفواري-الفرنسي نوعٌ من التحالف الضمني الذي قد يحدّ من نفوذها الإقليمي ويضعف خطابها القائم على مقاومة الهيمنة الغربية.
وقال زهدي إن بوركينا فاسو تسعى لذلك إلى تحويل الخلاف إلى قضية سيادة وطنية لكسب التأييد الداخلي واستدرار الدعم من شركاء جدد كروسيا والصين.
الخطر الأكبر
ورأى زهدي أن الأزمة تتجاوز البعد الثنائي بين البلدين، لتكشف عن تصدّع أعمق في بنية غرب أفريقيا السياسية، حيث تتقابل رؤيتان متناقضتان:
الأولى تقودها دول ما زالت تراهن على التحالفات الغربية لضمان الاستقرار، والثانية تمثلها الأنظمة العسكرية الجديدة التي تبحث عن استقلال القرار وبناء شراكات بديلة.
وأضاف أن الخطر الأكبر يكمن في تآكل الثقة بين الجيران، وتراجع التنسيق الأمني في منطقة تعج بالجماعات الإرهابية والنزوح البشري المتفاقم والهشاشة الأمنية والمجتمعية.
وتابع: "بصفة عامة، لا يمكن القول إن زيارة واتارا لباريس كانت السبب المباشر في تفجّر الأزمة، لكنها كانت بالتأكيد عاملًا محفّزًا أطلق موجة جديدة من الشكوك الإقليمية حول نوايا فرنسا وحلفائها، وأعادت رسم حدود الاصطفافات داخل الإقليم".
وأوضح أن كوت ديفوار تحاول تقديم نفسها كنموذج للاستقرار والانفتاح والتوازن، بينما تسعى بوركينا فاسو إلى ترسيخ صورتها كرمز للسيادة والممانعة، مضيفًا أن هذا يجعل العلاقة بينهما مرشحة لمزيد من التوتر ما لم تتدخل وساطة إقليمية فعالة تُعيد بناء الثقة وتُركّز على القضايا المشتركة مثل الأمن الحدودي ومكافحة الإرهاب والتنمية المستدامة.
فصل جديد
واعتبر الخبير المصري أن ما يجري اليوم ليس سوى فصل جديد في معادلة إعادة تشكيل النفوذ في غرب أفريقيا، وقال إن فرنسا تنسحب عسكريًا لتعود دبلوماسيًا واقتصاديًا، دون إنكار استمرار توغلها المجتمعي والثقافي في هذه المنطقة.
وأشار إلى أن قوى جديدة تتقدّم لملء الفراغ، فيما تبحث الدول الأفريقية عن توازن صعب بين الاستقلال والسيادة من جهة، والحاجة إلى شركاء داعمين من جهة أخرى.
وقال: "في هذا الإطار، تظل أزمة بوركينا فاسو وكوت ديفوار مؤشرًا على أن الصراع لم يعد فقط على الأرض أو السلطة، بل على هوية الإقليم نفسه ومستقبله في مرحلة ما بعد النفوذ الفرنسي".
أبعاد مختلفة
من جانبه، رأى أستاذ العلوم السياسية بجامعة باماكو في مالي، محمد أغ إسماعيل، أن الأزمة بين البلدين لها أبعاد مختلفة.
وقال إسماعيل لـ"العين الإخبارية" إن من هذه الأبعاد ما يتعلق بالتدخلات في شؤون البلدين لأسباب داخلية، وأخرى ذات بعد دولي، مثل استغلال القوى الغربية لكوت ديفوار من أجل البقاء في المنطقة ومنافسة القوى الجديدة كالصين وروسيا وإيران.
وأضاف أن السلطات البوركينية تشكّ في أي موظفين إيفواريين يعملون في مجال المنظمات الدولية، معتبرًا أنه من البديهي أن يكون لفرنسا دور في هذا الصراع.
وقال: "ما دامت فرنسا تريد البقاء في المنطقة ولها نفوذ في كوت ديفوار، فمن الطبيعي أن يستغل الجميع ذلك لخدمة مصالحه"، مضيفًا: "لكن في الوقت نفسه، اعتدنا أن تخلق الأنظمة العسكرية مشكلات مع الجيران لتبرير أزماتها الداخلية وتوجيه الرأي العام".
وشدد على أنه من مصلحة شعوب المنطقة أن يُجرى حوار بنّاء بين أبيدجان وواغادوغو لتسوية الخلافات وتسهيل التنقل بين البلدين لإنعاش الاقتصاد، مقترحًا أن تتولى غانا دور الوساطة، خصوصًا أن الرئيس الغاني الحالي تربطه علاقات جيدة بتحالف الساحل، مشيرًا إلى أن الحل يتطلب إرادة سياسية حقيقية من البلدين لإيجاد مخرج للأزمة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjEg جزيرة ام اند امز