ما معنى مصطلح "الاستثناء الثقافي" الذي تدعو إليه فرنسا؟ وهل يمكن أن تصبح الثقافة الفرنسية "استثنائية" من بين الثقافات الأوروبية؟
في الأسبوع الماضي، كتبنا "هل أوروبا بحاجة إلى نابليون؟"، وقلنا أن شبح نابليون قد يخيف أطرافا عديدة. وها هو ترامب يهاجم في تغريداته دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تأسيس جيش أوروبي، متناولا شبه هزيمتها على يد ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية بطريقة خبيثة. وفي الحقيقة، كانت فرنسا -ولا تزال- تتعلق بإرثها المتميّز، وما تطلق عليه "الاستثناء الثقافي"، وهذا المصطلح هو الذي يحدد سياستها منذ عهد ديجول حتى الوقت الحاضر. فالصراع بينها وبين الولايات المتحدة أمر حتمي. وهو موضوع يتصدر المناقشات بين أوساط اليمين واليسار على سواء. والصراع يحتدم بين مناصري "الاستثناء الثقافي" الفرنسي وضرورة مواجهة الهيمنة الأمريكية وبين دعاة الثقافة العالمية الكونية ضمن إطار العولمة.
هل يتمكن أنصار"الاستثناء الثقافي" الصمود بوجه الهيمنة الأمريكية ونحن على أعتاب الألفية الثالثة؟ لعل رد ماكرون جاء مفحِما عندما قال: إن فرنسا حليفة للولايات المتحدة لا تابعة لها، وهذا هو ما يقصد به "الاستثناء الثقافي"، الذي تسير عليه فرنسا منذ عهد ديجول، وهو الذي يجعلها في خانة "التميّز".
ما معنى مصطلح "الاستثناء الثقافي" الذي تدعو إليه فرنسا؟ وهل يمكن أن تصبح الثقافة الفرنسية "استثنائية" من بين الثقافات الأوروبية؟ وهل تقتضي العولمة أن تتخلى فرنسا عن استثنائها الثقافي؟
لابد من طرح هذه الأسئلة قبل الخوض في هذا الموضوع، البعض يعتبر "الاستثناء الفرنسي" عبارة عن هرطقة لا أكثر ولا أقل. وتشير الحقائق إلى أن قانون السوق لا بد وأن ينطبق على الجميع دون استثناء. وبإمكاننا القول أن الأفلام أو اللوحات أو الكتب الفرنسية، ليست جميعها، بل بعضها يتحدد بقوانين السوق في العرض والطلب.
يعتقد الفرنسيون أن من واجبهم الدفاع عن قوانين السوق في مواجهة الهيمنة الأمريكية على الثقافة الفرنسية. على سبيل المثال، إن النجم الفرنسي المعروف جان-بول بيلموندو، يشتد به الغضب عندما يلاحظ بأن تمثيله السينمائي لأعمال الفنان ساشا غيتري، الذي يعتبر من التراث الفرنسي، لا يُعرَض إلا في صالات متواضعة ضئيلة، في الوقت الذي تبرمَج الأفلام الهوليوودية الأمريكية في 360 صالة سينمائية في أنحاء فرنسا.
وهنا يتساءل الجميع: ماذا يعني ذلك؟
هل يعني أن السوق أو الجمهور لم يعد قادرا على تقرير مهنة الفيلم ولكن الذي يقرر ذلك هو الرأسمال والمصالح الاقتصادية؟ أجل إن المال وحده هو الذي يقرر أن يُعرَض الفيلم الفلاني في باريس وبعض المدن الكبرى، أو يُعرَض في بعض ما يطلق عليه (صالات الفن والتجربة)، وهي عادة ما تكون صالات صغيرة وهامشية ولا تدر إيرادات كبيرة، وكذلك فإن المال وحده أيضا يقرر أن يُطبَع الكتاب الفلاني أو الرواية الفلانية 200 ألف نسخة وأن يُبَاع بهذا السعر أو ذاك، وفي هذه الظروف لا يخضع المنتوج الثقافي إلى السوق بقدر ما ينبغي تعبئة هذا السوق-الجمهور-من أجل إفشال طغيان المال والرأسمال، وفي هذه الحالة يمكن لمعونة الدولة الفرنسية للأعمال الأدبية والفنية أن تؤثر، وذلك من أجل إظهار عمل جيد ووضعه بيد الجمهور.
ليست الضغوطات خارجية بل داخلية، إذ أن الهيمنة الأمريكية لا تطالب، على سبيل المثال، وهي موجودة بطبيعة الحال، أن يُعرَض فيلم سبيلبيرغ في 450 صالة سينمائية فرنسية. بل هي شركات التوزيع الفرنسية ذاتها، والتي تناشد "الاستثناء الثقافي"، تفرض هذا الاختيار، وكذلك الجمهور الفرنسي ذاته الذي يفضل أي إنتاج "مصنوع في أمريكا"، ومدراء القنوات التلفزيونية الفرنسية المشروطين بأذواق الجمهور الفرنسي، هم الذين يعرضون المسلسلات الأمريكية، فلا تتمكن الأفلام الفرنسية من أن تنافس الأفلام الأمريكية سواء على صعيد الميزانيات أو على صعيد معالجة الموضوعات، ولكن المسلسل الفرنسي "أستريكس" استطاع أن ينتصر على المسلسلات الأمريكية المنافسة بالرغم من عدم اهتمام أصحاب نظرية "الاستثناء الثقافي" من النقاد. فالثقافة الفرنسية عادة ما تكون محمية كثيرا ومنعزلة عن تطورات السوق، وبالأحرى عن الحقائق الاجتماعية السائدة في عصرنا، إذ لم تعد هذه الثقافة شمولية بقدر ما هي منطوية على ذاتها. وهذا الأمر لا ينطبق على الثقافة الإنكليزية على سبيل المثال، ونرى أفلاما إنكليزية عديدة استطاعت أن تشق الإطار المحلي وتنطلق نحو العالمية، بينما ظلت السينما الفرنسية أسيرة صالات الحي اللاتيني وجادة الشانزلزيه في أحسن تقدير.
من المعروف جيدا أن كُلّاً من الكاتبين ألبير كامي وجان بول سارتر حازا على جائزة نوبل للآداب، الأول تقبلها في حين رفضها الثاني، وهما من رموز الثقافة الفرنسية الأساسيين، ولكنهما أيضا من أمجادها الضائعة في العالمية الفرنسية التي لم تحقق أبعادها بل ظلت حبيسة. فقد استطاع ألبير كامي أن يطور النزعة الإنسانية في حين طور سارتر مسألة الالتزام. ولكن الفرنسيين يفتخرون باستيحاء والت ديزني من كاتبهم العظيم فكتور هوجو. كما يعيب النقاد الفرنسيون على الكتاب والأدباء الفرنسيين أنهم لا يهتمون إلا بأنفسهم وبعاصمتهم باريس، بينما يدعو معارضو "الاستثناء الفرنسي" إلى ضرورة أن تفكر فرنسا بالعالم كما تجعل العالم يفكر بفرنسا.
الفرنسيون يفتخرون بأن الرئيس الصيني جيانك زيمين معجب بقراءة ستندال، الذي مضى عليه قرابة قرن ونصف، ويحب أيضا قراءة الكونت دي مونت كريستو الذي تحول إلى بطل وطني. وهذا لا يعني أن فرنسا غير موجودة، إذ أنها تمتلك هوغو وسارتر وبروست، كما أن فيلسوف التجريد والتفكيك جاك دريدا قادر على جمع 2000 مجموعة أسترالية في سيدني في أجواء تشبه أجواء كونسيرتات الروك.
من الواضح أن الثقافة الفرنسية تتميز بمفهوم واسع والسؤال المطروح هو: أين الخلل إذن؟
على سبيل المثال، إن الجوائز الأدبية الفرنسية ليس لها أية أصداء في الصحافة الأمريكية، والأفلام الفرنسية توزع في صالات العالم السينمائية بنسبة 1 بالمائة. وكذلك الكتب الفنية الفرنسية تعاني من الكساد. في السابق كانت باريس عبارة عن عيد متنقل، على حد قول همنغواي. وكان الشباب الفرنسي يتعلم على مقاعد جامعة السوربون، وكانت المجلات الفكرية الرصينة مثل مجلة "اسبري" و "الأزمنة الحديثة" مصدر معرفة لغالبية السياسيين الذين يقودون فرنسا، وكانت فرنسا بالنسبة للكتلة الشيوعية مرآة للتحرر والثقافة الطليعية، وكانت أعمال أناتولي فرانس ورومان رولان وآخرين مصدر دراسة وبحث هناك، وكان الكوبيون يقرأون كتب إميل زولا في مدارسهم. لكن الصورة اختلفت الآن، فالأطفال الروس أصبحوا أطفالا غربيين: يأكلون وجبات الطعام السريعة ماكدونالد، ويقرأون كتب ماتريكس، ويشاهدون أفلام حرب النجوم… وتحولت فرنسا إلى نوع من الحنين إلى الماضي.
وربما نتساءل: هل يتمكن أنصار"الاستثناء الثقافي" الصمود بوجه الهيمنة الأمريكية ونحن على أعتاب الألفية الثالثة؟ لعل رد ماكرون جاء مفحما عندما قال: إن فرنسا حليفة للولايات المتحدة لا تابعة لها، وهذا هو ما يُقصد به "الاستثناء الثقافي" التي تسير عليه فرنسا منذ عهد ديجول، وهو الذي يجعلها في خانة "التميّز"، إلى جانب ذلك نكرر: هل أوروبا بحاجة إلى نابليون جديد بعد تغريدات ترامب؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة