طالبت الحكومة الفرنسية المفوضية الأوروبية بأن يكون الاتحاد الأوروبي "أكثر حزما" حيال بريطانيا.
ويريد رئيس الوزراء الفرنسي، جان كاستكس، من الشركاء في التكتل الأوروبي أن يأخذوا "موقفا صُلبا" ضد لندن كي تدرك أن الخروج أكثر ضررا بكثير من البقاء في العائلة الأوروبية، على حد تعبيره.
ما تتعامل معه لندن، أو كانت تظن ذلك على الأقل، تلك الأزمة، التي نشأت بعد احتجاز فرنسا سفينة بريطانية بسبب تأخر تجديد تراخيص عشرات المراكب الفرنسية للصيد في المياه الإقليمية للمملكة المتحدة.
والتأخير هنا ليس متعمدا، وإنما بسبب عدم تقديم أصحاب هذه المراكب أوراقا ثبوتية كافية.
بقي التصعيد الفرنسي في أزمة الصيد ملغزا بالنسبة للبريطانيين لأيام عدة حتى كُشفت رسالة "كاستكس" إلى بروكسل، وبين ليلة وضحاها وجدت المملكة المتحدة نفسها مجددا في معركة وجود مع الاتحاد الأوروبي، اعتقد كثيرون أنها انتهت بعدما توصل الطرفين إلى اتفاق "بريكست" نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول 2020.
ومع الاستفتاء المصيري، الذي خاضه البريطانيون عام 2016 وصوّتوا فيه لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ظهر في التكتل الأوروبي تيار يريد "معاقبة" الإنجليز خوفا من أن تلحق بهم شعوب أخرى وتطالب باستقلالها، وطوال السنوات الماضية لم يعلن هذا التيار عن نفسه صراحة، حتى ظهرت رسالة رئيس الحكومة الفرنسية.
ظن كثيرون أن "العقاب الأوروبي" تمثل في سنوات عديدة من المفاوضات الشاقة لبلوغ اتفاق "بريكست"، فقد حملت تلك السنوات خسارات كبيرة للاقتصاد البريطاني، كما أن قطاعات عدة في المملكة المتحدة لا تزال تعاني نقصا في العمالة وصعوبة في التأقلم مع واقع "الاستقلال" عن الاتحاد الأوروبي.
ما تقوله رسالة "كاستكس" بين سطورها هو أن "العقاب" لم ولن ينتهي، بل سيتجدد مع كل خلاف اقتصادي أو سياسي ينشأ بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، خاصة عندما يتزامن هذا الخلاف مع فترة دعائية لانتخابات في دولة من دول التكتل.
ما تعيشه فرنسا من استعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة يعد من أسباب تصعيد باريس ضد لندن اليوم، فالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يستخدم التيار المتشدد ضد بريطانيا في حملته للفوز بولاية رئاسية ثانية، لذلك يتوقع البعض أن يهدأ التوتر بين الدولتين قليلاً بعد أن ينتهي فرز الأصوات في استحقاق الجمهورية الفرنسية الخامسة يوم الثالث والعشرين من نيسان/أبريل 2022.
توقعات التهدئة تصطدم بواقع ترؤس فرنسا الاتحاد الأوروبي خلال النصف الأول من العام المقبل، وبالتالي سيستغل التيار المتشدد ضد بريطانيا كل ثانية في هذه الرئاسة كي يهاجم لندن، مستغلا ما يمكن تسميته بـ"عدوى الاستقلال البريطانية"، التي باتت أمراً واقعا في بعض دول الاتحاد الأوروبي.
ثمة تيارات سياسية تنافس على السلطة في دول الاتحاد تريد أن تحذو حذو بريطانيا في الخروج من التكتل، أو على الأقل فرض شروط خاصة في عضويته، أو تجديد القوانين الأوروبية بما يناسب ظروفها المحلية.. هذه التيارات تغذّي خوف المتشددين ضد بريطانيا، خاصة في الدول القائدة للاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا، وتدفع للتصعيد مع لندن في كل عثرة تواجه تطبيق اتفاق التجارة المبرم معها.
المشكلة أن المخاوف على مستقبل التكتل تبدو منطقية ومشروعة إلى حد ما، خاصة عندما تتابع تمرد بولندا على القضاء الأوروبي فيما يتعلق باستقلال قضائها، والتوتر المستمر بين دول الاتحاد بسبب أزمة المهاجرين، ومشكلة واردات الغاز وأسعاره، إضافة إلى الانقسام الأوروبي حول العلاقات مع روسيا وتركيا والولايات المتحدة.
ولا نبالغ بالقول إن المشكلات الداخلية للتكتل مرشحة للتفاقم بعد رحيل "صوت الحكمة"، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورحيل المستشار النمساوي، سبستيان كورتز.
وسيزداد الأمر تعقيدا إن خسر إيمانويل ماكرون الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، وذهبت السلطة في باريس إلى زعيمة حزب التجمع الوطني، مارين لوبان، أو ذلك الصحفي اليميني الشعبوي الصاعد، إريك زمور.
على ضوء كل هذه المعطيات تُفهم أسباب المطالبة الفرنسية بموقف أوروبي أكثر حزما مع بريطانيا في أزمة الصيد البحري، ولكن السؤال الكبير هو إن كانت دول التكتل ستتفق على هذا أم ستتحول إلى أزمة داخلية جديدة بينها، خاصة أن المملكة المتحدة ليست دولة هامشية يمكن الاستهتار بها، أو التخلي بسهولة عن العلاقات معها.
تصريحات المسؤولين البريطانيين تقول إن لندن مستعدة لكل الاحتمالات، رغم أنها تفضل الإبقاء على العلاقات مع فرنسا والاتحاد الأوروبي بأفضل صيغة، وهي تحاول بجدية حلحلة الخلافات الناجمة عن تطبيق اتفاق الخروج بأقل الأضرار على الطرفين.
ديفيد فروست، وزير الدولة البريطاني المكلف بملف "بريكست"، يقول إنه يأمل ألا يكون رأي "كاستكس" منتشرا على نطاق أوسع في الاتحاد الأوروبي، ولكن ذلك لا يخفي حقيقة أن حزب المحافظين الحاكم سيستفيد كثيرا من هذا الرأي في تعزيز الوحدة الوطنية أمام كل الأزمات الناجمة عن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد.
لقد استثمر المحافظون ملف "بريكست" بشكل جيد حتى الآن، وتلويح الأوروبيين بمعاقبة البريطانيين على الخروج سيعزز بلا شك من التفاف سكان المملكة المتحدة حول حكومتهم.
رُب ضارة نافعة كما يقال، فقد ازدحمت الأزمات الاقتصادية في بريطانيا مؤخرا، وزاد التململ من تباطؤ حكومة بوريس جونسون في التعامل مع هذه الأزمات، أما وقد بات البريطانيون يعرفون الآن أن عقابا فرنسيا وأوروبيا بانتظارهم بسبب ديمقراطيتهم، فهذا بحد ذاته كفيل بمنح "جونسون" وحزبه وقتا ومتسعا لاحتواء مشكلات حكمهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة