التنمية قضية متعددة الجوانب ومتشابكة الأبعاد والمستويات بصورة أفقية ورأسية، لذلك ترتبك في التعامل معها الحكومات والدول.
ولا يستطيع أن يبحر في عباب قضية التنمية إلا من استطاع الإمساك بدفة سفينتها بكل توازن يحقق الشمول والتكامل والاستدامة في ذات الوقت، وقليل من الدول استطاع العبور بسفينة التنمية إلى بر الأمان.
وأخطر قضيتين في مسألة التنمية هما: الشمول والعدالة، فالشمول ينصرف إلى قدرة السياسات التنموية على استيعاب جميع القطاعات الاقتصادية، بحيث لا تكون تنمية مشوهة، أو مبتورة الأطراف، أو مشلولة، إذ يحدث ذلك عندما تركز التنمية على بعض القطاعات الاقتصادية وتتجاهل قطاعات أخرى، كأن تكون تنمية صناعية غير مصحوبة بتنمية زراعية، وقد تكون مركزة على التجارة والخدمات والسياحة دون وجود بنية صناعية قوية، ما يجعل الدول خاضعة للتقلبات العالمية.
التنمية الشاملة هي تلك التي تخلق بنية اقتصادية يكمّل بعضُها بعضاً، فتكون الصناعة فيها مبنية على إنتاج زراعي أو تعديني قوي، ومعتمدة على بنية تجارية داخلية وخارجية قوية، تساندها بنية أساسية من طرق ووسائل تواصل ومواصلات تتناسب مع المستوى الصناعي الذي تصل إليه الدولة.
أما مسألة العدالة، كجناح ثان لعملية التنمية، فتركز على بُعدين أساسيين هما: العدالة بين طبقات المجتمع، والعدالة بين أقاليم الدولة.. أما العدالة بين طبقات المجتمع فتحددها البنية القانونية للملكية، وسياسات الأجور، والضرائب، والخدمات العامة، والمسؤولية الاجتماعية لرأس المال، والسياسات الاجتماعية للدولة مثل دعم التعليم والصحة والتأمين الاجتماعي للفقراء، وأما العدالة بين أقاليم الدولة، فتتحقق عندما يتم توزيع مشروعات التنمية على مختلف الأقاليم بصورة تحقق الاستخدام الأمثل والعادل لموارد كل إقليم، وتحقق التشغيل وخلق فرص العمل للسكان في كل إقليم، ولا تقود إلى الهجرات الداخلية، وعمليات النزوح القسري تحت ضغط البحث عن فرص العمل من منطقة إلى أخرى، ومن الريف إلى المدينة، ما يُحدث تشوهاً اجتماعيا وخللاً عُمرانيا يقود إلى ظهور أحزمة الفقر المحيطة بالمدن الكبرى، وخلق العشوائيات التي تُجهض أي جهد تنموي.
هذا الفكر التنموي العميق اشتملت عليه خطة الأمم المتحدة والبنك الدولي، التي جاءت تحت عنوان "أهداف التنمية المستدامة" أو "أهداف الألفية"، ولكن للأسف عند التطبيق الفعلي سيطر العالم الغربي بهمومه وأزماته على وضع وتحديد أولويات الأجندة العالمية، فتم ترتيب هذه الأهداف حسب هموم العالم المتقدم ومشكلاته، وتراجعت هموم العالم الثالث وأزماته، فكانت قضايا الفقر والمرض وفقدان العدالة وتدهور التعليم في آخر أجندة الاهتمامات.
ولأن قضية المناخ تؤثر بصورة أقوى على الدول الأوروبية فقد حازت الأهمية القصوى، ونالت من الاهتمام العالمي غايته، وتم تقديمها على أنها القضية العالمية الأولى، وهي بالطبع قضية تهم البشرية في الأمد البعيد، وتحتاج إلى معالجات طويلة المدى، ولكن مَن صنعها هو مَن تجب عليه مسؤولية معالجتها، فدول العالم الثالث، التي لم تدخل مرحلة التصنيع المكثف بعد، ولم تشارك في الانبعاثات الحرارية، التي تهدد مستقبل العالم، لا ينبغي أن تتحمل مسؤولية ذلك، وإنْ كان يجب أن تأخذ الحيطة والحذر في المستقبل لكي لا تشارك في تدمير الأرض.
إن تحقيق التنمية الشاملة العادلة على المستوى العالمي يتطلب أن تنال قضايا الفقر والمرض والجهل المستوى نفسه، الذي تناله قضية المناخ، بل يجب أن تكون هي القضايا الأُولى، والأَولى بالاهتمام، لأن الفقر خطر حال وموجود فعلا ويموت بسببه الملايين من البشر.
العالم يحتاج إلى درجة من العدالة في معالجة قضاياه، بحيث لا يترك للدول المتقدمة صناعيا أن تنفرد بوضع جدول أعمال البشرية، وأن تحدد أولوياتها بطريقة تتناسب مع مصالحها وهمومها وتحدياتها، وهذا لا يعني أن يكون هناك تطرف مقابل، بأن يتم تجاهل قضايا بعيدة المدى في مقابل معالجة القضايا الوقتية، كل ما نحتاجه على المستوى العالمي أن تكون هناك رؤية عالمية لتحقيق التنمية الشاملة لكل البشرية، عادلة بين دولها وشعوبها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة