على السودان أن يفتح نوافذه مشرعة لتلك الرياح دون أدنى تردد ودون أي اعتبارات خاصة أو أيديولوجية فمصلحة السودان في توافقه مع محيطه
عندما أطلق رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الدعوة لقيام كيان القرن الأفريقي الكبير، والذي يضم بجانب إثيوبيا السودان وإريتريا وجيبوتي والصومال، كان يعبّر تماما عن مصلحة إثيوبيا ويدرك جيدا أن التحديات التي قرر أن يتصدى لها لا تملك إثيوبيا وحدها القدرة على مواجهتها بمعزل عن محيطها الإقليمي الذي يمثل مجالها الحيوي ويحدد أمنها القومي، وكان لا بد من تحقيق اختراق استراتيجي يكون رأس رمحه فتح الطريق إلى أسمرا، وكما هو معلوم بأن عراب دعوة القرن الأفريقى وداعيته ومنظره الأبرز هو محمد أبو القاسم حاج حمد "رحمه الله".
يد "سلمان" ويد "أبناء زايد" تلك هي الأيدي الصديقة التي جمعت بين أفورقي وآبي وهي ذات الأيدي التي ما نال السودان وأهله منها إلا كل الخير، أكبر الداعمين للسودان، وأكبر المستضيفين لأهله، شاركناهم نهضتهم، كتفاً بكتف، وشاركونا خيرهم في السراء والضراء
لم يكن استشراف المفكر السوداني الأعظم، "حاج حمد"، لمستقبل هذه الرقعة من العالم، ترفاً فكرياً على الإطلاق، بل نتيجة لمعرفة بحثية وتجريبية متنوعة المصادر امتدت لعقود لم يكتفِ فيها بالتنظير، بل كان مرتبطا ومتفاعلا مع قضايا القرن ومؤثرا فى أحداثه، ولا شك عندي بأن هذا القرن، إن توفرت له أسباب الاستقرار، وأدرك قادته أن ما يجمعهم أكثر بألف مرة من ما يفرقهم، وأن كل ميزة نسبيّة لأحد مكوناته، تقابلها ميزة تكملها عند المكونات الأخرى، لتشكل معاً اقتصادا تكاملياً، يمكن أن يحقق معدلات نمو قياسية، قد تفوق في سنوات، ما حققته النمور الآسيوية في عقود، اقتصاداً يمتلك المواد الخام، والأيدي الشابة، والطاقة الدافعة، والتكنولوجيا المسرعة، ووسائل النقل الجوي والبري والبحري، عبر مطارات وموانئ تطل على أهم ممر ملاحي في الكوكب، مفتوح على الرياح الأربع، وفوق ذلك يمتلك الحكمة والإرادة، للمضي قُدماً حتى يعود للإنسانية ابنها الخلاسي الغائب أو المُغيّب، بفعل الأيديولوجيات القديمة والعنصرية العقيمة، وأعباء صراعات تاريخية، بين قوميات ما هي في الحقيقة سوى قومية واحدة، تفرقت تحت جنح ظلام عصور ما قبل التاريخ، فمنهم من صعد الهضبة، ومنهم من انحدر إلى الوادي، وآخر قصد البحر، ولكنهم يحبون بعضهم، شيء خفي يدفعهم لذلك، حتى وإن تقابلت الخنادق، يطربون لنفس السلم الخماسي الفريد، الذي نقلنه الجدّات عبر القرون، ليرقصن عليه زهرات "الهضبة"، وحرائر "الوادي"، وحوريات "البحر"، ويتردد صداه على امتداد الساحل، من "مقديشو" و "بُلحار وبربرة" إلى "جيبوتي"، و"عصب" و "مصوع" و "قرورة"، و "طوكر" و "سواكن"، حتى "دنقناب" و "أوسيف"، وتحمله الرياح الرطبة إلى الهضبة، إلى "هَرَرْ" و"جِقْجِقا" و "أديس"، و "دبر ماركوس" و "مكلي"، وحتى "بادمي" و "عد خالا" و "مندفرة" و "أسمرا" و "كرن"، ويتدفق مع الأنهار الخصبة، إلى الوادي عبر "عنسبة" و "بركة" و "القاش" و "الدندر" و "الباسلام" و "الرهد" و "سيتيت"، و "قلقو" و "الأزرق الكبير" .
إن رياح الخير والسلام، تهب على القرن الأفريقي، وما نهاية الحرب اللعينة بين جارتينا؛ سوى بشائر مقدمها، وعلى السودان أن يفتح نوافذه مشرعة لتلك الرياح دون أدنى تردد ودون أي اعتبارات خاصة أو أيديولوجية، فمصلحة السودان في توافقه مع محيطه لا في عزلته ومصلحة الوطن وشعبه فوق كل شيء.
حاول البعض لاعتبارات معروفة أن يسوق للمصالحة بين جارتينا كتحالف ضد السودان، وذلك بالتأكيد يمثل حالة من التوهم وعدم الواقعيه وتراجع مستوى التفكير السياسي والاستراتيجي، فمن يصدق أن السودان يضره هذا التوافق؟!! فالسودان بلا شك هو أكبر المستفيدين من هذه النهاية السعيدة، من تمتد حدوده ألفاً وأربعمائة كيلومتر من مرتقعات الإنقسنا إلى جبال البحر الأحمر، هو المستفيد، من يستضيف أكثر من مليوني لاجئ لنصف قرن من الزمان، يقتسمون مع إخوانهم اللقمة، هو المستفيد الأول، فقط إن أدركنا جميعنا ذلك، وعملنا على تحقيقه، كما فعل الشاب الأربعيني آبي أحمد، عندما أدرك لحظة التاريخ، والتفاتته ، وكما استجاب صديق محمد أبو القاسم حاج حمد المخضرم "أفورقي" ، كلاهما انتبه للحظة التاريخ والتفاتته، وأمسك بها في ظرف وواقع وطني عصيب بالغ التعقيد حين كادت إثيوبيا أن تنفجر أثنيا، وكادت إرتريا أن تنضب بشريا ولكن كليهما أمسك باللحظة قبل فوات الأوان كما علينا في السودان أن نفعل، قبل أن يغادرنا التاريخ ولقد مُدّت لنا "الأيدي الصديقة" يد "سلمان" ويد "أبناء زايد".
تلك هي الأيدي الصديقة التي جمعت بين أفورقي وآبي، وهي ذات الأيدي التي ما نال السودان وأهله منها إلا كل الخير، أكبر الداعمين للسودان، وأكبر المستضيفين لأهل السودان، شاركناهم نهضتهم، كتفاً بكتف، وشاركونا خيرهم في السراء والضراء، على امتداد تاريخنا المشترك، منذ عهد فيصل "اللاءات الثلاث "، الذي يعرف السودانيون مواقفه وصلابته، و"زايد الخير" الذي لا ينكرون خيره، وكلاهما أورثا هذا الوفاء والولاء لمن جاء بعدهما، لأنهم جميعاً أدركوا، وبحكمة البدو وفراستهم، نبل أهل السودان وفضلهم، وخير هذه البلاد، الذي يكفي أهلها، ويفيض على من حولها، وقد ظلّ إخوة فيصل على عهده، كما برّ أبناء زايد وصيته، ورغم تقلبات الزمان، واختلاف التوجهات واتفاقها، ظلّت مصلحة السودان وشعبه؛ حدّاً إستراتيجياً، لا يخضع لمناورات السياسة، وتبادل التحالفات والمواقف المؤقتة، بل ظل السودان بُعداً إستراتيجياً لا ظرفياً، وقد أثبتت الأحداث صحة هذا التموضع، فقد دعمت السعوديّة والإمارات السودان في كافة عهوده، سواء اتفقتا مع هذه الحكومة، أو اختلفتا مع تلك، وبكل أنواع الدعم، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، وفق حوجة السودان وأهله، وكذلك فعل السودان، بعقوله وبسواعده وبلسانه وسنانه، وحتى لحظة التدوين هذه، رُبّ دماء فتى نجديّ، تمتزج بدماء فارسٍ ماهريّ، عند ممرات نجران، ورُبّ عرق باسل من واحة الجندول، وهو يفكك اللغم على طريق الحُدَيْدة، يكون سبباً لتنام غريرة العين أُمٌ في واحة ليوا، يوم يعود حمدان من الجبهة .
اختلف الناس في موقف السودان الرسمي، من "عاصفة الخليج"، ولكن السودانيين أكبروا موقف المملكة، من المقيمين على أرضها، فما مسهم ما مَس غيرهم واختلف الناس أيضاً على موقف السودان الرسمي من "عاصفة الحزم" ، ولكن السعوديين قد رأوا دفاع السودان واستبساله، من "نجران" إلى "جازان"، مروراً بـ"ميدي"، وإلى عمق "مران"، والإماراتيون أذهلتهم شجاعة الفرسان، على طول الساحل الغربي من "عدن" إلى "الحُدَيْدة" .
إذا كان المتصالحون اليوم، هما جارتانا والوسيطان الميسران هما أخوانا، وقفا عليه بنفسيْهِما الأمير "محمد بن سلمان"، ولي عهد المملكة، والشيخ "محمد بن زايد"، ولي عهد أبوظبي، إذن فلترقد نساء حلة عوّاض بسلام، مطمئنات، فقُبَيْل العشاء سيسمعن ضجيج عودة الصبية مع القطيع، من وراء الجبال، فلا شرّ يراد بالسودان من ورائها، فمن اجتمعوا فى ميناء الحجاز، هم جيراننا وإخواننا، اجتمعوا من أجل السلام، فأحيّنا ربّنا بالسلام، وأدخلنا الجنة دار السلام .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة