مسيرة البابا فرنسيس من حي فلوريس إلى الفاتيكان

أعلن الفاتيكان صباح اليوم الإثنين عن وفاة البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، عن عمر يناهز 88 عامًا،
بعد صراع امتد لأشهر مع المرض داخل مستشفى "جيميلي" في العاصمة الإيطالية روما. وبرحيله، تُطوى صفحة من صفحات التاريخ الكنسي، وهي مسيرة البابا رقم 266، خورخي ماريو بيرغوليو، الذي عُرف بلقب "بابا الشعب والفقراء".
نشأة متواضعة في حي فلوريس
وُلد بيرغوليو بتاريخ 17 ديسمبر / كانون الأول عام 1936، في حي فلوريس الشعبي بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، وسط عائلة متواضعة الجذور. والده، مهاجر إيطالي يعمل في قطاع السكك الحديدية، ووالدته أرجنتينية من أصل إيطالي كانت تكرّس وقتها لرعاية أسرتها. نشأ الطفل خورخي في كنف هذه الأسرة البسيطة، حيث تربى على مفاهيم التضامن الإنساني، والتكافل المجتمعي، والرحمة التي ظلت راسخة في قلبه حتى لحظاته الأخيرة.
دعوة كهنوتية غيّرت مجرى حياته
في بدايات شبابه، خاض بيرغوليو تجارب عديدة في الحياة العملية، حيث عمل في تنظيف الأرضيات، ومارس مهنة الفني الكيميائي في مصنع أغذية، كما تولّى مهمة الحراسة الليلية في أحد الملاهي. وخلال تلك الفترة، كان يعشق رقص "التانجو"، ويهتم بالموسيقى، ويرتبط بعلاقة عاطفية مع فتاة، قبل أن تتغير حياته تمامًا بعد "لحظة اعتراف" داخل كنيسة سان خوسيه دي فلوريس.
في سن السادسة عشرة، دخل الكنيسة مصادفة خلال احتفالات "عيد الطلاب" في الأرجنتين، وخرج منها وهو يحمل داخله يقينًا عميقًا بأن طريقه سيكون مكرّسًا لخدمة الرب. قال لاحقًا عن تلك اللحظة: "لا أعلم ما الذي قادني إلى هناك، لكنني شعرت أن أحدًا كان ينتظرني بالفعل".
رغم تردد والدته في البداية حيال قراره، إلا أنها تقبّلت لاحقًا مسيرته الدينية، وطلبت منه أن يمنحها البركة عقب رسامته كاهنًا في عام 1969.
أول بابا لاتيني يقود الكنيسة الكاثوليكية
في عام 1958، التحق بيرغوليو بالرهبنة اليسوعية، وبدأ يرتقي تدريجيًا في مراتبها، حتى أصبح رئيسًا للرهبنة في بلاده، ثم نُصب أسقفًا، وتحوّل لاحقًا إلى كاردينال في عام 2001. اتّسمت شخصيته بالتواضع والبساطة، إذ رفض المظاهر الباذخة، وكان يتنقل عبر المواصلات العامة، ويعيش في شقة متواضعة بدلاً من الإقامة الرسمية للأساقفة.
في 13 مارس / آذار 2013، تم انتخابه بابا للكنيسة الكاثوليكية، خلفًا للبابا بنديكتوس السادس عشر، مسجّلًا ثلاث سِمات غير مسبوقة: أول بابا من أمريكا اللاتينية، وأول من الرهبنة اليسوعية، وأول بابا يأتي من خارج أوروبا منذ أكثر من اثني عشر قرنًا.
اختار لنفسه اسم "فرنسيس" تيمّنًا بالقديس فرنسيس الأسيزي، وأعلن منذ لحظاته الأولى أنه يريد "كنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء". وبالفعل، تجسدت كلماته في أفعاله، إذ كان يخرج في الليل متخفيًا لتوزيع الطعام والمساعدات، ويدفع فواتيره بنفسه، ورفض السكن في القصر البابوي، مفضلًا بيت الضيافة.
رفضه للزي البابوي التقليدي
تمسّكه بالبساطة تجلى أيضًا في رفضه للزي البابوي التقليدي، وعدم استخدامه سيارة الليموزين المخصصة له. ورغم مكانته الدينية، ظل متابعًا وفيًا لمباريات ناديه المفضل "سان لورينزو"، وابتعد عن مشاهدة التلفاز منذ عام 1990، تنفيذًا لنذر قطعه على نفسه.
عُرف بحبه للطهو، وكان يهوى إعداد طبق "Bagna Cauda" الإيطالي بنفسه كلما سنحت له الفرصة. أما وصيته الأخيرة، فكانت أن يُدفن في كنيسة القديسة مريم الكبرى في روما، عوضًا عن الدفن التقليدي في سراديب الفاتيكان داخل التوابيت الثلاثة.
وصرّح خوسيه بيرغوليو، ابن شقيقه، عن إحدى محطات شبابه، قائلًا: "كان يحب فتاة وكان على وشك أن يبوح لها بذلك، لكنه تراجع عند باب الكنيسة. لقد كان الله هو حبّه الحقيقي". وأضاف أن البابا لم يكن يسعى لهذا المنصب، لكنه شعر، حين جرى انتخابه، بأن الطريق قد كُشف له.
رسالة عيد الفصح قبل أيام من وفاته
خلال أيامه الأخيرة، تمسك بالصلاة اليومية حتى داخل المستشفى، محافظًا على الطقوس التي بدأ بها مسيرته. ظل يحمل في قلبه الفقراء، كما فعل طيلة حبريته التي امتدت اثني عشر عامًا. وقد أعلن الفاتيكان صباح اليوم الإثنين وفاته رسميًا، مؤكدًا أنه أول بابا لاتيني يقود الكنيسة الكاثوليكية.
توفي عن 88 عامًا، بعد معاناة طويلة مع أمراض متعددة، حيث أمضى خمسة أسابيع في مستشفى "جيميلي"، يتلقى علاجًا من التهاب رئوي مزدوج. خرج من المستشفى في 23 مارس / آذار، ثم ظهر مجددًا على كرسي متحرك في 6 أبريل / نيسان خلال قداس احتفالي في ساحة القديس بطرس بمناسبة عام اليوبيل.
وفي صباح الأحد، وقبيل ساعات من تدهور حالته الصحية، التقى بنائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس في مقر إقامته بالفاتيكان، حيث تبادلا التهاني بعيد الفصح. كما وجّه البابا رسالة بالمناسبة، نُقلت عبر أحد مساعديه، دعا فيها إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، واصفًا الوضع هناك بأنه "مأساوي ومؤلم"، مطالبًا بالإفراج عن جميع المحتجزين المتبقين لدى حركة "حماس".
رغم مرضه، ظل البابا يباشر مهامه الروحية بتكليف من الأطباء وبحد أدنى من الجهد، إلى أن خفتت أنفاسه الأخيرة في روما، ليترك خلفه سيرة قُدّت من التواضع والعمل الميداني، وبصمة خالدة في وجدان الملايين حول العالم.
aXA6IDMuMTQ1LjE5LjEyMyA= جزيرة ام اند امز