الحروب المستدامة أشعلها في دنيا العرب والمسلمين مَن يتمسحون بالدين ويتاجرون به، أطلق شرارتها أصحاب العمائم واللحى الطويلة
حَلُمتْ مجتمعاتنا بالتنمية زمناً طويلاً، وحين اقترب الحلم من التحقق تحول إلى كابوس طويل ثقيل، وصارت التنمية سراباً؛ تطارده فيزداد ابتعاداً. ففي اللحظة التي كانت تتسابق فيها دول العالم لرفع معدلات التنمية، كانت مجتمعاتنا تتسابق لتدمير ما قد تحقق من تنمية محدودة ضئيلة، وتعود دولنا ومجتمعاتنا بإرادة ذاتية، ومع سبق الإصرار والترصد إلى مجاهل التاريخ، وتعيد تمثيل الخراب الذي شهدته أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وكأننا حريصون أشد ما يكون الحرص على أن نعيد تمثيل أقبح مشاهد التاريخ، وأكثرها تدميراً وخراباً. لا يحتاج الإنسان إلى قدرات خارقة ليشاهد في مدن سوريا واليمن وليبيا وقبلها جميعا العراق والصومال نفس مشاهد مدن أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية.
للخروج من حالة الحروب المستدامة لا بد من مراجعة شاملة للثقافة والتاريخ ومصادر التدين، لا بد من وقفة حقيقية على أرضية صلبة من العلم والمعرفة؛ يقوم بها المخلصون من أبناء الأمة، وليس الانتهازيون الذين لهم ثارات أيديولوجية مع الدين ذاته، لا بد من مراجعة كل مصادر تشكيل الوعي الجمعي من تعليم وثقافة وخطاب ديني
في اللحظة التي كان فيها العالم يصيغ أهداف الألفية الثالثة أو أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة بالتعاون مع البنك الدولي، ودخلت حيز التنفيذ في يناير 2016، في تلك اللحظة كان الكثير من الشعوب العربية والإسلامية يدخل في حالة الحروب المستدامة، حروب تغذيها أفكار ودوافع لا نهاية لها، ولا حل متوقع لها، ولا طريق أمام البشر جميعاً لوقفها أو للوصول إلى حل وسط فيها، حروب تغذيها ثارات تاريخية، وتشعلها مواقف وعداءات حدثت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، يستحيل أن تحل إلا بأن يؤتى البشر قدرة خارقة لإعادة التاريخ، وتصحيح أحداثه، ومنع بعضها من الوقوع أصلا.
التنمية المستدامة تركز على: القضاء على الفقر والجوع، وتوفير مستويات جيدة من الصحة والتعليم لجميع البشر، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وتوفير مصادر مياه نقية، وطاقة نظيفة، وتوفير عمل لائق لكل إنسان، وتحقيق العدل والسلام، والمحافظة على البيئة والمناخ... إلخ. هذا ما يسعى إليه العالم، وما يتم تطبيقه في أكثر من 170 دولة، أما حالة العرب والمسلمين من أفغانستان إلى ليبيا إلى اليمن وسوريا والعراق، فعكس هذا هو ما يتحقق على الأرض، كل ذلك تحت شعارات دينية مستدامة، تحقق استدامة الحروب، ولا أفق متوقعا لنهايتها.
الحروب المستدامة أشعلها في دنيا العرب والمسلمين من يتمسحون بالدين، ويتاجرون به، أطلق شرارتها أصحاب العمائم واللحى الطويلة؛ الذي أحيوا أفكاراً ميتة من مقابر التراث، ونفخوا فيها روحاً شيطانية؛ مستغلين التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، فخرج المارد من القمقم، وانتشر بين الناس، وصار من الصعب الإمساك به، وإعادته إلى محبسه. ما يحدث في اليمن وسوريا والعراق وليبيا والصومال وأفغانستان، وما يراد به أن يحدث في مصر والجزائر والسودان وغيرها هو برنامج جديد للحروب المستدامة أطلقه تجار الدين، الذين وصف أمثالهم أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى ٨٧٣م، فقال: "هم من أهل الغربة عن الحق، وإن تُوِجوا بتيجان، دون استحقاق، يدافعون عن كراسيهم المزورة؛ التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر شيئا باعه، ومن باع شيئا لم يكن له. فمن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين". هؤلاء المتاجرون بالدين من عدماء الدين أدخلوا شعوبا عربية كبيرة في حالة من الحروب المستدامة؛ التي لن يكون بعدها تنمية مستدامة إلا إذا هلك هذا الجيل.
وتكمن الصعوبة في العودة إلى تحقيق التنمية المستدامة في العديد من الدول العربية والإسلامية، أن حالة الحروب المستدامة استهدفت الإنسان، خصوصاً الأجيال الشابة، فقد تم تدمير جيل كامل كما حدث في العراق والصومال وأفغانستان، والآن في سوريا واليمن وليبيا، جيل خرج من التعليم، وتم تهجيره من مناطقه داخل دولته أو خارجها، هذا الجيل سيكون هو الفاصلة؛ التي لا واصلة بعدها بين العلم والجهل، بين الإنسانية والتوحش، بين ثقافة العيش المشترك، وثقافة إفناد الآخر، بين البناء والهدم، بين العمل والإنتاج، والتدمير والخراب، جيل كامل تم العبث به، وتم طحنه تحت مجنزرات آلة حرب بشعة قاسية.
هذا الجيل هو الذي سيتولى تكوين الأجيال القادمة، ولذلك ستخرج هذه المجتمعات من التنمية المستدامة إلى الحروب المستدامة، ولعل مثال أفغانستان يحتاج إلى تأمل، لأربعين سنة كاملة ما زالت الحروب مستدامة، والأعداء يصنعون، ويتوالدون، ويتغيرون، ولكنها الحرب المستدامة أخذت مكان التنمية المستدامة.
ما يحدث في اليمن وسوريا والعراق ثارات طائفية ستخلق حالة من الاستدامة أكثر مما يحدث في ليبيا أو حدث في السودان من ثارات قبلية أو عرقية، لأن المخزون الديني التاريخي سيظل يعيد ويجدد الثارات الطائفية، ويدفع لتحقيق استدامتها وتوالدها، لأنها مربوطة برموز دينية وتاريخية، وتتجدد في مواقيت ومناسبات معينة تتكرر سنويا، لذلك فإن استدامة الحروب في هذه المجتمعات أكثر خطورة من غيرها.
وللخروج من حالة الحروب المستدامة لا بد من مراجعة شاملة للثقافة والتاريخ ومصادر التدين، لا بد من وقفة حقيقية على أرضية صلبة من العلم والمعرفة؛ يقوم بها المخلصون من أبناء الأمة، وليس الانتهازيون الذين لهم ثارات أيديولوجية مع الدين ذاته، لا بد من مراجعة كل مصادر تشكيل الوعي الجمعي من تعليم وثقافة وخطاب ديني.. وللحديث بقية.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة