«حي الرمال».. «نوستالجيا» غزة في قلب القاهرة
آلاف الفلسطينيين من أهالي غزة سافروا إلى مصر مع بدايات الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في رحلة تمنوها عابرة، لكنها طالت لأكثر من عام.
باسم أبو عون، واحد من هؤلاء الغزاويين، الذين تعايشوا مع أوضاع مستجدة، سعيا لخلق حياة جديدة، بعدما أحالت الحرب ماضيه إلى ركام، بحسب وكالة فرانس برس.
وافتتح أبو عون مطعما صغيرا لتقديم "فرشوحة شاورما الديك الرومي" الغزاوية لزبائنه في شرق القاهرة، حيث انتشرت مؤخرا مطاعم فلسطينية باتت تُشكّل ما ينظر إليه على أنه "غزة صغيرة".
وعبر الرجل ذو الـ 56 ربيعا، وعائلته معبر رفح إلى مصر في فبراير/شباط الماضي، وبعد أقلّ من 4 أشهر افتتح مطعمه، ضمن خطته للاستقرار في القاهرة وتأسيس "حياة جديدة"، وهو حال كثير من الغزاويين الذين خرجوا من لهيب الحرب، إلى مصر.
أسمى باسم أبو عون مطعمه "حي الرمال"، تيمنا بحيّه في مدينة غزة المدمّرة، وفي المكان يجلس فلسطينيون يتبادلون الحديث باللهجة الغزاوية، وهم يتناولون بنهم سندويشات بخبز الفرشوحة الفلسطيني لُفّت بورق على شكل الكوفية الفلسطينية يقدمّها نادل غزاوي مبتسم طُبع علم فلسطين على كمّ قميصه القرمزي.
ويقول أبو عون لوكالة "فرانس برس" إنه "لو توقّفت الحرب الآن في غزة، سأحتاج سنتين أو ثلاث على الأقل لأعود مجددا إلى حياتي، لأن كل شيء ممسوح هناك.. الأمور صعبة ولن تتحسّن بين يوم وليلة".
ويتابع بأسى: "إنها حرب شرسة غير مسبوقة.. حرب إبادة ضد البشر والحجر".
وبجوار محلّه في ضاحية مدينة نصر شرقي القاهرة، رُسم علما مصر وفلسطين متشابكين على أحد الجدران.
ولجأ عدد كبير من الفلسطينيين إلى الحيّ الذي تسكنه إجمالا عائلات من الطبقة المتوسطة، ورغم حصولهم على تصاريح إقامة موقتة، فتح رجال أعمال فلسطينيون فيه ما لا يقل عن 15 مطعما تنوعت بين الشاورما والحلويات والفلافل والمقاهي التي باتت مقصدا للجالية الغزاوية.
ويتابع أبو عون: "لدي مسؤولية وعائلة وأولاد في الجامعات. فكرت في أنّ استقرّ هنا وأعيد تأهيل نفسي".
وكان أبو عون يملك فرعين لمطعم اسمه "تركي" في قطاع غزة أصبحا ركاما، فترك كلّ شيء وغادر القطاع حاملا مبلغا صغيرا لا يشكّل كلّ ما يملك.
مجازفة كبيرة
ودخل أبو عون وعائلته مصر ضمن أكثر من 120 ألف فلسطيني وصلوا إلى البلاد بين نوفمبر/تشرين الثاني ومايو/أيار الماضيين، بحسب البيانات الرسمية، عبر معبر رفح، المنفذ الوحيد لقطاع غزة إلى الخارج قبل أن يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي، ما تسبّب بإغلاقه.
ودخل الفلسطينيون إلى مصر عبر عمليات إجلاء منظمة لأسباب طبية أو عبر قوائم رسمية أدرجت أسماؤهم عليها.
ولم يكن قرار افتتاح المطعم سهلا على أبو عون لكنّه اليوم يعتبره "أفضل قرار" اتخذه.
ويقول بينما يعاين طبق السلطة الغزاوية المميزة، وهي خليط من الصلصة وقطع البصل الصغيرة، يقدّم لعائلة من آسيا الوسطى: "كانت مجازفة كبيرة. فكرت أن أعيش لسنة بالمبلغ الذي خرجت به أو أفتح مشروعا".
ويلاقي المطعم إقبالا، وفق ما يقول أبو عون، مضيفا: "سأفتتح فرعا ثانيا وسنتوسّع".
وقبالة مطعمه، يوجد مطعم سوري. وبالقرب منه، محل "بوظة وبراد"، الذي افتتحه صاحبه الفلسطيني في سبتمبر/أيلول الماضي.
ويقدّم المحل الذي اكتظّ بالزبائن المصريين، المثلجات فوق مشروب مثلج على وجهه حبات الفستق.
ويقول صاحب المحل كنعان كاظم (66 عاما): "هناك نوع من الخوف والرهبة أن تفتتح مشروعا في بلد لا يعرفك الناس به".
لكنّه يتابع بتحدّ، وقد وقف إلى جانبه أبناؤه: "إذا حُكم علينا ألا نعود (إلى غزة)، لابدّ أن نتكيّف مع الوضع الجديد ونبدأ حياة جديدة".
ويأمل كاظم أن يعود الى غزة، لكنّ ابنه نادر الذي يدير المحلّ قرّر الاستقرار في مصر.
ويقول نادر، وهو أب لطفل وطفلة: "المجال هنا أوسع وأكثر أمانا واستقرارا بالإضافة إلى أن البلاد تشكّل سوقا كبيرة"، بعدد سكانها الذي يناهز 107 ملايين نسمة.
وأضاف: "المكان الذي ترتاح فيه، تحبّ أن تعيش وتعمل فيه، وتربّي أطفالك فيه، وتعدّ لهم مستقبلهم. هذا ما أشعر به في مصر".
البقاء طويلا
وتُشعِر سلسلة المحال والمطاعم الفلسطينية المتراصة، الغزاوي بشار محمد (25 عاما) بـ "الطمأنينة والراحة".
ويقول الشاب بعدما تناول وجبة شاورما دجاج ساخنة: "وجود المطاعم الفلسطينية بهذا العدد يبني مجتمعا فلسطينيا حولها ويساعد على البقاء طويلا"، ويضيف أنها "بمثابة غزة صغيرة تذكرني بروح وجمال غزة".
وبعد أكثر من عام على بدء الحرب، باتت غزة "غير صالحة للسكن" بسبب الدمار الهائل وتدمير البنى التحتية، بحسب الأمم المتحدة.
ويروي محمد أن عددا كبيرا من أقاربه قتلوا في الحرب في قطاع غزة، واشترى الشاب الحاصل على شهادة في إدارة الأعمال حاسوبا آليا محمولا ودرس التسويق الإلكتروني لكسب العيش.
وبعدما أخذ نفسا عميقا، يقول بأسى: "صعب أن أعود إلى غزة. لم تبق حياة هناك. لابد أنّ أؤسس حياة جديدة هنا".