شمال غزة.. قصص مُرّة تخطف فرحة العائدين

كان خميس وأحمد عمارة يدركان أنهما لن يجدا أكثر من الركام عند عودتهما إلى منزلهما في شمال غزة.
ولكن كان عليهما أن يذهبا إلى هناك، مع بدء عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة، الإثنين الماضي، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، بعد 471 يوما من الحرب.
فما زال والدهما وشقيقهما مدفونين تحت الأنقاض، بعد أكثر من عام من قصف القوات الإسرائيلية لمنزلهما.
أحبة تحت الأنقاض
كل ما استطاع خميس عمارة أن يراه وهو يقف في وسط حي الشجاعية في مدينة غزة، في اليوم الثاني لعودة النازحين، هو الدمار الشامل.
وقال لشبكة "سي إن إن": "عندما عدت إلى هنا كان قلبي ممزقا. الشيء الوحيد الذي أعادني إلى هنا هو والدي وأخي".
"لا أريد أي شيء آخر. ما أطلبه هو العثور على والدي وأخي وهذا كل شيء"، يضيف خميس في التقرير الذي طالعته "العين الإخبارية" في موقع الشبكة الأمريكية.
ووفق أرقام صادرة عن المكتب الإعلامي في غزة، هناك نحو 500 ألف فلسطيني نازح -ما يقرب من ربع سكان القطاع- قاموا بالعودة إلى الشمال المدمر في أول 72 ساعة بعد أن فتحت إسرائيل ممر نتساريم الذي يفصل مدينة غزة وشمالها عن وسط وجنوب القطاع.
عندما تتدفق الذكريات
سار الشقيقان خميس وأحمد، مسافة 11 كيلومترا (6.8 ميل) للوصول إلى الشجاعية، وهي رحلة خطيرة خاضوها مع العديد من الأطفال الصغار. ووجدوا أن منزلهم قد دُمر بالكامل تقريبا، ولم يتبق سوى غرفة واحدة قائمة جزئيا.
بينما كان خميس يبحث بين الأنقاض، عثر على حقيبة الحياكة الخضراء الخاصة بوالدته، التي كانت تحتوي على بضع كرات من الخيوط، وكأنها وضعتها للتو.
"كانت تحب الحياكة، كانت تحب الصوف وأشياء من هذا القبيل"، قال وهو يتفقد المنزل.
وتابع: "يا إلهي، كانت والدتي لديها الكثير من القصص. إنها راوية قصص، وهي تحب القصص القديمة. كانت فنانة. الله معك يا أمي".
أُصيبت والدة خميس وأحمد في غارة إسرائيلية وتم إجلاؤها لاحقا إلى مصر، وهي واحدة من الفلسطينيين المسموح لهم بمغادرة القطاع للحصول على العلاج الطبي قبل أن تغلق إسرائيل معبر رفح بين غزة ومصر في مايو/أيار 2024.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، تم السماح بإجلاء 436 مريضا فقط، معظمهم من الأطفال، منذ مايو/أيار (2024)، من بين ما يقدر بنحو 12000 مريض يحتاجون بشكل عاجل إلى إجلاء طبي.
ووفق تقارير أممية، حولت الضربات العسكرية الإسرائيلية معظم غزة إلى أنقاض، حيث تم تدمير أو إتلاف نحو 69% من جميع الهياكل في القطاع في الأشهر الخمسة عشر الماضية، وكانت مدينة غزة الأكثر تضررا.
العودة بعد أكثر من عام
أجبرت إسرائيل معظم سكان شمال غزة على مغادرة المنطقة في وقت مبكر من الحرب، وأصدرت أوامر الإخلاء وأمرت الناس بالانتقال جنوبا.
وبمجرد رحيل السكان، أصبحت العودة مستحيلة، مما يعني أن معظم العائدين هذا الأسبوع يفعلون ذلك لأول مرة منذ أكثر من عام.
وبينما نزح تسعة من كل 10 من سكان غزة في أثناء الحرب، فإن أولئك الذين أجبروا على الفرار من الشمال ظلوا بلا مأوى لأطول فترة.
وروى خميس عمارة عن رحلة العودة إلى الشمال، قائلا إنها طويلة وصعبة، مشيرا إلى إلى الجثث المتحللة الملقاة في الشوارع، والطرق المدمرة وأكوام الأنقاض التي تعوق الطريق. "ناهيك عن النوم بين الأنقاض".
ووسائل النقل غير متاحة على نطاق واسع، لذلك كان نحو ثلث الناس يشقون طريقهم سيرا على الأقدام، بحسب ما أظهرته مقاطع فيديو ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية.
لا حياة
محمد صالحة، مدير مستشفى العودة في تل الزعتر بالشمال، أشار إلى أنه لا توجد حاليا مساحة في شمال غزة لإقامة مخيمات للنازحين العائدين إلى ديارهم.
وقال لشبكة "سي إن إن": "لا توجد مخيمات للسكان النازحين للبقاء فيها. يحاول بعض الناس إصلاح منازلهم المتضررة، لكن شمال غزة يحتاج بشكل عاجل إلى التدخل - يجب على المؤسسات الإنسانية توفير المأوى والمياه والمخيمات".
أروى المصري، التي نزحت من بيت حانون بالشمال، وتقيم داخل مدرسة جنوب محور نتساريم، لفتت هي الأخرى إلى أن رجال عائلتها عادوا إلى ديارهم في الأيام القليلة الماضية لرؤية ما تبقى من منازلهم.
وعما شاهدوه، روت قائلة "لقد صُدموا عندما وجدوا حجم الدمار وانعدام الحياة. لا يوجد شيء. لا ماء - كان على أخي أن يذهب من بيت حانون إلى جباليا للحصول على الماء ثم كان عليه أن يذهب إلى مدينة غزة للاتصال بنا لإخبارنا بعدم العودة بعد".
ولكن في حين لا تستطيع هي وأطفالها العودة إلى منزلها في الشمال -أو ما تبقى منه- فإن إقامة المصري في المدرسة التابعة للأونروا غير مؤكدة أيضا، بسبب الحظر الإسرائيلي على عمليات الوكالة الأممية.
وتابعت: "عندما تتوقف الأونروا عن العمل، لن يجد الناس طعاما ولن يتمكن العديد من الأشخاص الذين يعيشون في مدارس الملاجئ التابعة للوكالة من البقاء. لن تكون هناك خيام أو مأوى متاحة".
«لم يبق أحد»
كان اكتشاف أن المكان الذي كانا يسميانه ذات يوم منزلهما قد اختفى بالكامل تقريبا هو الأحدث في سلسلة من خيبات الأمل التي عانى منها خميس وأحمد عمارة على مدار الأشهر الخمسة عشر الماضية.
وقال الشقيقان إنه من بين 60 فردا من عائلتهما الممتدة، نجا 11 فقط من الحرب.
وفرّت الأسرة من الشجاعية إلى المغراقة، جنوب نتساريم، بعد تلقي رسائل نصية من الجيش الإسرائيلي تأمرهم بمغادرة المنطقة.
"لماذا قالوا لنا أن نذهب جنوبا؟ تخيل طفلا يبلغ من العمر أربع سنوات يخبرك أن والدتي هنا وخالتي هنا، (جثتاهما) ممزقتان أمامه. غطيت وجهه وكان يصرخ. عماته وأعمامه وجده وعمه، لم يبق أحد"، يقول خميس.
وتُوفيت زوجة خميس في الغارة الإسرائيلية، بعد أسبوع واحد فقط من ولادة طفلة قتلت أيضا.
وأضاف: "كنا سعداء للغاية. أتمنى لو كان لدي صورة لمولودتي الجديدة، لكن ليس لديّ أي صورة. انتظرت لفترة طويلة حتى أنجب ابنتي ثم اختفت هي ووالدتها معا"، حتى إن القبور دمرها الجيش الإسرائيلي بعد أيام قليلة من دفن الأسرة لهما.
aXA6IDE4LjIxNi4wLjIxOSA= جزيرة ام اند امز