دار الزمان دورته الكاملة، بعد خمسة وسبعين عاماً من إعلان "دولة إسرائيل"، وبعد مائة وستة أعوام على صدور وعد بلفور البريطاني الذي تعهد بقيامها.وبعد مائة وستة وعشرين عاماً من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول الذي حدد فلسطين لتكون "الوطن القومي ليهود العالم".
بعد كل هذه السنوات وهذه المنعطفات الكبرى في تاريخ فلسطين وإسرائيل والصراع الدائر منذ نحو قرن من الزمان، مسلمات وثوابت كثيرة راحت تهتز بشدة وبعضها يتساقط إلى غير رجعة، لتبرز ملامح مشهد جديد في هذه المنطقة الصغيرة وفي تطورات ذلك الصراع فيها وحولها.
"حرب الشهور الستة" الدموية، والقابلة للامتداد، التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول على قطاع غزة قتلاً وتدميراً وإبادة، هي التي أكملت دورة الزمان وراحت ترسم يوماً بعد آخر، هذه الملامح الجديدة للمشهد المختلف.
فخلال الشهر الأول من هذه الحرب، مع كل وحشية القصف بكل أنواعه وآلاف الضحايا بالقتل والجرح ودمار العمران والبنية التحتية، ظل العالم الغربي بكل دوله وعلى رأسها الولايات المتحدة يقف صفاً واحداً وراء حكومة بنيامين نتنياهو فيما أسماه حينها "الحق في الدفاع عن النفس".
ولم يتوقف الدعم الأمريكي المعتاد، عسكريا كان أو سياسيا أو دبلوماسيا أو اقتصاديا، طوال هذه الفترة عن التدفق على إسرائيل، ومعه زيارات رئيس الولايات المتحدة ووزيري دفاعها وخارجيتها لها لتأكيد وقفتهم معها في "حربها العادلة" على غزة، وهو ما شاركهم فيه مجموعة من كبار مسؤولي بعض الدول الأوروبية الرئيسية، للتعبير عن نفس الدعم غير المشروط.
لكن تتابع الأيام والأسابيع والشهور التي اتضح خلالها الحجم الهائل لما يجري في غزة من إبادة جماعية وتدمير ممنهج لكل وجود، أدى إلى بدء عديد من حكومات العالم الغربي وغالبية الرأي العام في دوله في التذمر المعلن والرفض المتصاعد لما يجري في غزة. وانتقل التذمر والانتقاد الآخذ في التصاعد، من الرفيق إلى الحاد، إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإدارتها ونسبة غير قليلة من نخبتها السياسية الحاكمة وأخرى أكبر بين صفوف الرأي العام والإعلام.
ووصلت الانتقادات العلنية لإسرائيل في حدتها إلى درجات غير مسبوقة خلال كل تلك العقود من الزمان السابق الإشارة إليها، حتى إن الرئيس الأمريكي نفسه اتهم علنا حكومتها الحالية بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، داعياً رئيسها نتنياهو للتخلص من شركائه الأكثر تطرفاً فيها، وهو ما انتهى قبل أيام بزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ إلى دعوة الإسرائيليين لانتخابات مبكرة للتخلص من هذه الحكومة التي دفعت "الدعم العالمي لإسرائيل إلى أدنى مستوياته التاريخية"، حيث "لا يمكن لإسرائيل أن تبقى على قيد الحياة إذا أصبحت منبوذة".
ولم يكن غريباً أن تأتي بعد أيام قليلة تصريحات مماثلة في المضمون من خصمهم الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة دونالد ترامب.
ومع هذه الانتقادات و"التخوفات" غير المسبوقة تجاه إسرائيل، برزت للمرة الأولى تصريحات أمريكية وأخرى من الاتحاد الأوروبي ومختلف دوله الأعضاء، ترى جميعها أن الحل الوحيد لضمان استقرار وسلام المنطقة، وقبلها أمن وسلامة إسرائيل، هو حل الدولتين الذي يعني قيام دولة فلسطينية مستقلة بجوار إسرائيل.
وراحت التصريحات الواضحة والحاسمة من الدول الأوروبية، وباقي دول العالم كله تقريباً، تحذر إسرائيل من اجتياح منطقة رفح في جنوب غزة بمن فيها من سكان ونازحين يصلون لنحو 1.5 مليون شخص، وهو ما راح يتصاعد تدريجياً في الولايات المتحدة، حتى التصريح الأخير لوزارة الخارجية التي رأت أن مثل هذا الاجتياح سيجعل إسرائيل دولة منبوذة في العالم.
ووصل التصاعد الأمريكي لقمته بامتناع واشنطن عن التصويت على أول قرار يتخذه مجلس الأمن بموافقة كل أعضائه الآخرين على وقف لإطلاق النار في شهر رمضان، بما يفضي إلى وقف إطلاق "مستدام"، ويتم خلالهما تبادل الأسرى والمحتجزين بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
الواضح من كل هذه التطورات، وما قد يستجد منها، على الصعيد الغربي وخصوصاً الأمريكي، أن الاندفاع الهيستيري لحكومة التطرف الإسرائيلية وما لحق بكيان الدولة وتكوين المجتمع من هزات زلزالية هائلة بدءاً من هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أفضى إلى تنامي مخاوف كبرى على مستقبل إسرائيل ووجودها بداخل كل المعسكر الغربي وخصوصاً في شقه الأمريكي.
وكانت هذه المخاوف هي الدافع الحقيقي وراء كل هذه المواقف العلنية غير المسبوقة الرافضة والمنددة بالسياسات الإسرائيلية، والداعية لقيام دولة فلسطينية، من المعسكر الغربي كله. فقد اكتشف هذا المعسكر أن إسرائيل اليوم هي بمثابة "ابن ضال"، ويجب على من تبنوه لعقود طويلة أن ينقذوه من نفسه ومما لا يراه من مخاطر، هم متأكدون من وجودها، وبالتالي أتت كل هذه التطورات والتي يبدو أنها ستتصاعد إلى أبعد من هذا، من أجل "إنقاذ الابن الضال".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة