دائماً تكون للتواريخ دلالة ومعنى، رسالة ومفهوما، هناك أيام لا تشبه ما قبلها، وهناك أيام فاصلة في عمر الأمم، أصداء يوم السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣ دفعتني لأن أتأمل التواريخ التي كانت لها بصمات قوية في تغيير مجرى التاريخ.
لم تكن جولة عادية، مثل تلك الجولات الخمس التي جرت بين إسرائيل وقطاع غزة، فهذا التاريخ أسس لحالة سياسية وعسكرية وأمنية، لا تشبه أيا من الحالات السابقة، فهذه المساحة الصغيرة (٣٦٥) كيلومترا مربعا، ذات الكثافة السكانية الأعلى في العالم 2.3 مليون نسمة، استطاعت أن تفرض قواعد جديدة في مفاهيم الحرب والسلام والصراع، بين القوى المتنافرة، وتجذب التاريخ بحكاياته المليئة بالعقائد، واستدعت أحداثا من الحروب السابقة بين الغرب والشرق، بل كسرت قوانين راسخة في صياغة النظام الدولي، مثل القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وتعدت مفاهيم الأعراف، بما قاد العالم إلى مأزق غير مسبوق، وكشف عن سيناريوهات، ربما لا أحد يستطيع التنبؤ بنهايتها على وجه الدقة، لكن قطعا فإن السابع من أكتوبر ستكون له تبعاته الإقليمية والدولية.
مكر التاريخ قد يخفي أحيانا خيوطا ناظمة بين الأحداث، التي تتشابه في عمق أثرها على محطات الأزمنة، عشنا مشاهد لتغيرات كبرى عام ٢٠١١، إبان ما يسمى الربيع العربي، هذا التاريخ أراد بمشرط الجراح استئصال مشروع الاستقرار من المنطقة، وتدمير مفهوم الدولة الوطنية، واستخدام ما يسمى الفوضى الخلاقة في صياغة الشعوب والأمم، ربما يكون ذلك لأهداف إستراتيجية بعيدة المدى، تمكن هذا التاريخ من اختطاف هوية بعض الدول العربية لمصلحة تيار معين، له امتدادات طرفية ساعدته حركيا وماليا وعسكريا، بل ساعدته في بسط النفوذ عبر ما يشبه الانتخابات، وصناعة ميليشيات حارسة على أحلامه في المنطقة، زلزال هذا التاريخ هز تونس ومصر، وليبيا وسوريا واليمن، وطار صداه إلى البحرين والمغرب، والجزائر والعراق، ولبنان، نجحت بعض العواصم العربية في الخلاص من تداعيات هذا التاريخ، لكن قطعا لا تزال آثاره السوداء مطبوعة على جسد خرائط المنطقة.
فالآثار هنا ليست في خسائر تريليونات من الدولارات فحسب، بل خسائر في المفهوم الوطني لاستقرار الدول والشعوب، وتمزيق اللحمة الاجتماعية، التي كانت سائدة إلى حد كبير، بين أبناء المجتمع الواحد، وباتت المنطقة منذ ذلك التاريخ، وحتى كتابة هذه السطور، بمثابة لوحة تنشين لقوى عالمية تتسابق نحو السيطرة وفرض النفوذ على المفاصل الحيوية للمنطقة.
مخازن التاريخ متخمة بالأسرار، والروايات والأزمنة الفاصلة، محطة كبرى لا بد من إعادة التوقف أمامها، بل دراستها جيدا، وهي بعنوان الهجمة الأمريكية على العراق، ليلة ١٩ مارس من عام ٢٠٠٣، التي انتهت في الأول من مايو ٢٠٠٣، عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن انتهاء «العمليات القتالية الكبرى»، أي أن العالم كان يتغير سريعا وعميقا خلال أربعين يوما، وهو يشاهد تغيير مجرى التاريخ على الهواء مباشرة، فالغزو الأمريكي لم يكن شرعيا في الأساس، جاء مستترا بأهداف إستراتيجية صاغتها مختبرات مؤسسة «راند» الأمريكية التي قالت في تقريرها الشهير عام ٢٠٠٢، إن العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف استراتيجي، ومصر الجائزة الكبرى، ثمة روابط عميقة -لا تحتاج إلى إيضاح- بين لحظة الغزو الأمريكي للعراق، ولحظة انفجار الفوضى الخلاقة عام ٢٠١١، في بضع عواصم عربية.
الرسالة هنا واضحة، دون لبس، فلم يكن الغزو الأمريكي إلا تمهيدا للجسور أمام ما يسمى بـ«الربيع العربي»، فذات المفاهيم التي غزت بها أمريكا العراق هي نفسها المفاهيم التي حطمت كل المواثيق والقوانين الإنسانية خلال اندلاع ما يسمى «الربيع العربي».
قبل عقد كامل من هذا التوقيت كان هناك توقيت آخر يطل من شرفات مركز التجارة العالمي، بمدينة نيوريوك يحمل رقم ١١ سبتمبر من عام ٢٠٠١، الانفجار حدث على الأراضي الأمريكية، لكن ألسنة اللهب طالت خرائط الاستقرار بالمنطقة، فقد كان هذا التاريخ تكئة لاندفاع الإمبراطورية الأمريكية، وللخروج من قوقعة المحيطين الهادئ والأطلنطي للثأر من مرتكبي الجريمة سواء دولا أو أفرادا، واتخذت من هذا الحدث ذريعة للتدخل في شؤون الدول بدعوى محاربة الإرهاب.
في الثاني من أغسطس عام ١٩٩٠ كان الإقليم العربي على موعد مع الصدمة الكبرى، عندما غزا العراق دولة الكويت، فتحولت المنطقة بالكامل إلى مسرح للتدخل الدولي، فقد تشكل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لشن حرب على القوات استمرت ستة أسابيع تحت عنوان «عاصفة الصحراء»، كان من آثارها تمدد القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، وإحداث خلخلة في بنية المجتمع العراقي، الذي غادره كثير من أبنائه إلى شتى بقاع العالم، بما انعكس على روح الاستقرار في العراق والمنطقة.
في لبنان، لا تزال عقارب الساعة تشير إلى منعطفات كبرى، ففي صباح ١٣ أبريل/نيسان ١٩٧٥، اندلعت حرب دموية وصراعات بين أبناء الشعب الواحد في لبنان، استمرت حتى ١٣ أكتوبر/تشرين الأول من عام ١٩٩٠، أي نحو ١٥ عاما، هذا التاريخ الدموي لا تزال آثاره العميقة بادية على ملامح الدولة اللبنانية التي فقدت بوصلة الاستقرار، وتكرست فيها مفهوم الطائفية، والمحاصصة السياسية، ودخلت في دوائر مفرغة من التدخلات الإقليمية والعالمية، وتسببت هذه الحرب في هشاشة عظام المجتمع اللبناني، فقد هاجر نصفه تقريبا إلى خارج البلاد، هربا من هذه الحرب، مما أفضى فيما بعد إلى غزو إسرائيلي في فترتين متتاليتين، غزو الجنوب اللبناني عام ١٩٧٨، ثم اجتياح العاصمة بيروت نفسها، عام ١٩٨٢، بذريعة طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ثم أعقبها وقوع مذبحتي صبرا وشاتيلا، اللتين راح ضحيتهما عدة مئات من الفلسطينيين.
أما التاريخ الفاصل، الذي غير بنية وإستراتيجية العالم عن حق، فهو يوم السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، فقد تمكن المصريون والسوريون، في وحدة نادرة على مسرح العمليات، من النصر واستطاع هذا النصر أن يعيد ترتيب المعادلة الإقليمية والعالمية، بما يحفظ قوة المنطقة العربية في أذهان العالم، فلا تزال أصداء هذا النصر تحفظ خرائط الإقليم العربي، من أطماع متلاحقة تسكن أذهان الواهمين بالسيطرة، وبسط النفوذ على مقدرات العرب.
أخيرا، أستطيع القول إن هذه التواريخ كانت بمثابة حدود فاصلة بين عوالم وأزمنة علينا قراءتها جيدا، للاستفادة من تداعياتها، والبناء عليها في التعامل مع مفاجآت التواريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة