تتشكل الصورة النمطية لأي نظام سياسي من خلال ممارساته وسياساته وبرامجه وتوجهاته الداخلية والخارجية، انطلاقاً من بنيته وركائز مؤسساته وإدارته القوى المحلية، حزبية كانت أم قوى مجتمع مدني أم أهلية، ضمن معادلة وطنية عامة قائمة على التفاعل بين تلك المكونات.
التوازنات المحكمة والدقيقة التي ينسجها نظام الحكم بين مختلف التيارات والقوى المحلية لا بد لها من المحافظة على حقوق كل طرف من حيث خصوصيته الثقافية والإيديولوجية والاجتماعية، وعبر رسم خطوط دستورية تفيد في عملية احترام التباينات والتناقضات مع الأطراف الأخرى المشكِّلة لكيان المجتمع والدولة، الأمر الذي يطرح سؤالا معرفياً حول مدى حقيقة وجود تمايز بين الدولة والمجتمع؟
لا شك أن الدولة كمفهوم وممارسة لها وظائفها وأدواتها وصلاحياتها وسلطاتها، وما يسميه علماء السياسة "العنف المبرر للسلطة" عندما يتطلب الأمر دورها للحفاظ على الأمن والاستقرار داخل الدولة والمجتمع الذي منحها ثقته عبر عملية ديمقراطية، فهي بذلك تقوم بوظيفتها السلطوية بأدوات وأساليب قانونية مبررة فقط، حين تكون دفاعاً عن هيبة الدولة ومؤسساتها ونظامها الشرعي بحكم الدستور الناظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، أما المجتمع فتتفاوت التعريفات بشأن ماهيته وتوصيفه، لكنها تتفق على أنه مجموعة من الناس تعيش سوية بشكل منظم وضمن جماعة منظمة يسعى كل فرد فيه لتحقيق مصالحه واحتياجاته، ويتم تنظيم المجتمع من قبل الدولة القائمة على فكرة التعاقد، وبالتالي فإن علاقة الدولة بالمجتمع ليست تصادمية.
بعض نماذج الحكم تسعى إلى تقوية نظامها على حساب قوة الدولة، وتكرس شرخاً وقطيعة مع الدولة كمؤسسات حكم وإدارة ومصالح وقوى سياسية ومجتمعية، وبدل أن تكون هيبةُ الدولة ظلاً للسلطة تتحول إلى التقليل من شأن مقوماتها ومرافقها، فتبدأ الدولة، بوصفها كياناً، بالتحلل والترهل التدريجي عبر أساليب وأدوات مبتكرة تضمن استمرار الواقع القائم، فيصبح القول بتلازم قوة الدولة مع قوة المجتمع ضربا من الخيال أو الوهم، وهو في حقيقته لا يعدو عن كونه محاولة للتغطية على الممارسات الما فوق قانونية وما قبل دستورية، فيستسلم المجتمع لهذا الوهم الذي أنتجته مخيالات مجموعة انتهازية من أصحاب المصالح المرتبطة بهذا الواقع، أو من قوى حزبية واقتصادية واجتماعية ربطت هي الأخرى مصالحها به.
حين تلجأ الدولة إلى البنى القبلية والعشائرية والطائفية للمجتمع، فذلك مؤشر على أن مقومات ومكونات وجودها كسلطة بدأت بالتراجع، كما هو الحال عندما تلجأ بعض الأنظمة إلى المجاميع المليشياوية، فإنها كسابقتها تفقد وظيفتها السياسية وهويتها الوطنية الجامعة، وتطبق نموذجاً خاصا بإدارة البلد محكوماً بفلسفة ردات الفعل، والتعامل مع سياقات العمل الوطني وتحديات الخارج بذهنية ما قبل الدولة، ومن شأن هذا الخيار القسري أن يفقد مسوغات استمراره تدريجيا، ويضعف القدرة على النهوض مجددا، حيث تتآكل كينونته بالتزامن مع شلل يضرب مفاصله وأعضاءه بما فيها أدوات الدولة الفعلية ومواردها، ولا تُستثنى في هذا التوجه مرافق الدولة، أو ما يتبقى منها على قيد العمل والإنتاج.
متى تتولد في المجتمعات نزعة العودة إلى الحاضنة القبلية والعشائرية أو الطائفية؟.. تتقدم مغريات اللجوء إلى العشيرة أو القبيلة أو الطائفة بمفهومها الواسع، عائلياً، أسرياً، مذهبياً، عرقياً، عندما يشعر الفرد بأن خطر الفناء يداهمه بصيغ متعددة جراء تراجع أو انتفاء دور الدولة بمفهومها القانوني والدستوري، أي حين تعجز عن تلبية احتياجاته البسيطة، والأهم حاجته للأمن والأمان بوجهيه الاقتصادي والاجتماعي.
أثبتت السيرورة التاريخية للمجتمعات البشرية أن الانتقال، عادةً، يجري من النواة الأولى للعائلة، فالطائفة، فالعشيرة، فالقبيلة؛ إلى الدولة ونظمها المتعددة في الحكم وإدارة شؤون العباد والبلاد، وتنظيمها ضمن سياق تطورات بنيوية واقتصادية ومعرفية، وهذا هو السياق الطبيعي، لكن حين يحدث العكس بأن يلجأ الأفراد، المواطنون، إلى النواة الاجتماعية الضيقة، فذلك يعني حتمية فقدان الدولة جميع مقوماتها الوجودية.
النكوص والعودة إلى الحاضنة الاجتماعية الأولى كظل يحتمي خلفه الأفراد، يحمل ملامح العودة إلى ذهنية الصراع والحروب وما تعنيه من خطر ومخاطر على المجتمع والدولة، وتشكل أولى الإرهاصات الدالة على عجز الدولة ونظامها السياسي عن القيام بوظيفته الاجتماعية المنوطة به، فتنحدر إلى صيغة الدولة الفاشلة، وتتحول العلاقة بين أركان الدولة والمجتمع إلى علاقة انتهازية صرفة، قائمة على عملية تخادم متبادل، يحفظ كل طرف مصالح الآخر ضمن حدود متفاهم عليها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة