بطريقة ما، سيلتف الاتحاد الأوروبي قريبا على الرفض المجري لإرسال أموال دعم جديدة إلى أوكرانيا في خضم حربها المستمرة مع روسيا منذ نحو عامين.
لكن هل يمكن للتكتل الرهان دائما على التنازلات والصفقات السرية البينية، لتمرير قراراته الكبرى والمصيرية التي تحتاج إلى إجماع الدول الأعضاء؟
المجر في ظل قيادة الرئيس فيكتور أوربان، تربك خطط الاتحاد الأوروبي لمواجهة الروس دعما لأوكرانيا. ولكن "تمردها" في هذا السياق يفضح أزمة هيكلية في التكتل الذي قد تتوسع عضويته من ٢٧ دولة إلى ٣٥ خلال عقد من الزمن. وكلما زاد العدد تعقد الوصول للإجماع المطلوب وفق قوانين تأسيس الاتحاد.
واليوم هناك دولة صغيرة مثل المجر (١٠ ملايين نسمة)، تعرقل قرارات تكتل يضم أكثر من ٤٥٠ مليون شخص، فيما يخص روسيا. وغدا قد يعيق غيرها حراكا ضد الصين أو أمريكا أو أي جهة حول العالم. فهل يبقى الاتحاد الأوروبي رهينة للصفقات التي تبرم بين أعضائه في الأروقة المظلمة لمؤسسة بروكسل؟
مغادرة أوربان للقمة الأوروبية الأخيرة من أجل تمرير قبول ترشيح أوكرانيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، أكدت ٣ حقائق حول الديمقراطية الناظمة للتكتل. الأولى هي أن الإجماع في اتخاذ القرارات ليس حالة نقية من التفاهم بين الدول الأعضاء. والثانية أن للتكتل زعامات تفرض توجهاتها عندما تستدعي الحاجة. أما الثالثة فهي ترهل آلية اتخاذ القرارات الكبرى بالتكتل، وعجزها عن احتواء خطته التوسعية.
ثمة ٨ دول مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي اليوم، هي ألبانيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا الشمالية، والجبل الأسود، وصربيا، وأوكرانيا، ومولدافيا، وجورجيا، وكوسوفو وتركيا.
صحيح أن رحلة بعضها أقصر وأسهل من الآخرين. ولكن كل خطوة لهذه الدول نحو تلك العضوية تزيد من الأسئلة المصيرية التي تواجه التكتل.
يساور بعض المسؤولين وقادة الاتحاد الأوروبي، قلقا شديدا إزاء مشاريع توسيع التكتل دون تمهيد البيئة الحاضنة للوافدين الجدد، وتحصين هيكلية الاتحاد ضد أي ثغرات أو نقاط ضعف قد تنتج عن زيادة أفراد الأسرة الأوروبية. وهذا القلق بات يظهر للعلن كلما أثير الحديث عن المرشحين المحتملين، وخاصة أوكرانيا.
الحالة الأوكرانية شكلت عبئا كبيرا على الاتحاد الأوروبي. أثقلت كاهله ماديا وعسكريا، كما وضعته أمام منعطفات وجودية لا مفر منها على المدى الطويل. فـ"ابتلع التكتل السكين على الحدين"، إن تخلى عن أوكرانيا أعلن هزيمته أمام روسيا، وإن ضم كييف لعضويته تنازل عن أسس تشكيله وأهم قيمه الديمقراطية.
قبل أشهر، اقترح رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل أن يستعد الاتحاد لضم أعضاء جدد عام ٢٠٣٠. فردت عليه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأن ذلك الموعد ليس موضع اتفاق بين دول التكتل. وبتعبير أدق، الفكرة بحد ذاتها ليست موضع اتفاق طالما أن آليات وسبل تنفيذها محط خلاف كبير.
ومنذ تأسيسه عبر 6 دول عام ١٩٥٧، توسع الاتحاد الأوروبي ٧ مرات كان آخرها انضمام كرواتيا عام ٢٠١٣. والغالبية الساحقة من المنضمين في الألفية الجديدة كانوا ينتمون للاتحاد السوفياتي سابقا. وفكرة تحصين القارة العجوز من أي "صحوة شيوعية" في المستقبل، كانت السبب الأبرز لقبول عضويتهم في التكتل.
دوافع قبول دول مثل المجر عام ٢٠٠٤، جعلت الدول القادة للاتحاد الأوروبي تغض الطرف عن تداعيات كانت متوقعة حينها وظهرت اليوم. وما يخشاه مسؤولون أوروبيون مثل فون دير لاين، أن يعيد الزمن نفسه وتغلب المبررات السياسية على القواعد الأساسية لعضوية الاتحاد. فيزداد المشهد تعقيدا، ويتهدد وجود التكتل.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واحد من القادة الأوروبيين الذين يستشعرون خطر التوسع غير المدروس لعضوية الاتحاد الأوروبي. لذلك اقترح صيغا لتعاون وتحالف التكتل مع دول القارة العجوز بعيدا عن مؤسسة بروكسل. ولكن هذه الصيغ لا ترضي من يحلم بالانتماء إلى القطب الاقتصادي الثاني عالميا بعد أمريكا.
ربما يكون الحل الأمثل في إطالة طريق العضوية الأوروبية إلى أجل غير مسمى، كما يحدث في المفاوضات مع تركيا. ولكن لا توجد أي ضمانات بأن يحافظ الكوكب على مساره السياسي دون تبدلات تقلب الموازين وتغير المعادلات، فتضطر بروكسل لتسريع ضم الدول المرشحة، أو توسعة قوائم الأعضاء المحتملين مستقبلا.
لا شك أن انضمام دول الاتحاد السوفياتي سابقا، وسع أسواق تصدير واستثمار الدول الصناعية والتجارية الكبرى في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا. ولكن منافع العائلة الكبيرة في زمن السلم والنمو الاقتصادي، يقابلها ضرر الأشقاء الكثيرين العاجزين عن حماية أنفسهم، أو تلبية احتياجاتهم في ظل النكبات والأزمات.
ثمة وجه سلبي آخر لعضوية الاتحاد الأوروبي يراه جميع أفراد التكتل. فالتبعية لبروكسل أيا كانت أسبابها ومبرراتها، تنتقص من سيادة الدول، وتحد من فرصها لترتيب البيت الداخلي والخارجي كما يحلو للشعوب والحكومات. ناهيك عن اليد العليا الأمريكية التي غدت تقيد سكان القارة العجوز مقابل الحماية من الروس.
ثمة مثل ياباني يقول إن الكثرة أسوأ من القلة. وحكمة إنجليزية تفيد بأن كثرة الملاحين تغرق السفينة. وواحدة أخرى تحذر من أن كثرة الطباخين تفسد الطبخة. كل هذه المقولات وغيرها في الثقافات المختلفة، تحذر من شيء واحد ألا وهو إفساد المؤسسات أو العائلات أو المشاريع من خلال تفتيت قوة القرار اللازم .
في إسقاط هذا على الاتحاد الأوروبي، يظن البعض أن نظام الأغلبية يجب أن يحكم التكتل. ولكن مثل هذه الخطوة قد تحدث مفعولا عكسيا. فتنفر الأخوة من العضوية الأوروبية، وتفجر توجهات استقلالية للدول تحت مظلة الاتحاد. حينها تطغى المصالح الوطنية على اعتبارات الوحدة، ويتغير هدف الصفقات السرية في أروقة بروكسل من توفير الإجماع على القرارات، إلى حشد الأصوات لتمرير مشاريع تخريبية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة