على مدار تاريخ القضية الفلسطينية، ربما لم يشهد الفلسطينيون فصيلًا أضرَّ بجوهر نضالهم كما فعلت حركة حماس.
فبدلًا من أن تكون رافعةً للمشروع الوطني الفلسطيني، تحوَّلت إلى أداة تخدم أجندات خارجية، مستبعدةً كل من لا يتفق مع رؤيتها الضيقة، وخاضعةً بشكل أعمى للقرار الإيراني، الذي لم يرَ فيها سوى مطيةٍ لتعزيز نفوذه الطائفي في المنطقة.
الخطأ الاستراتيجي الأول لحماس كان استيلاءها على قطاع غزة في عام 2007، حيث أقامت هناك "دويلة"، وهو الحدث الذي عمَّق الانقسام الفلسطيني بشكل غير مسبوق، محوِّلًا النضال الفلسطيني من صراع ضد الاحتلال إلى صراع داخلي مرير. لقد صنعت حماس بيديها واقعًا سياسيًّا وإعلاميًّا ودوليًّا جديدًا، قسَّم القضية الفلسطينية إلى كيانين منفصلين، حيث أصبحت غزة كيانًا مستقلًّا بحكم الأمر الواقع، بينما ظلَّت الضفة الغربية في إطار السلطة الفلسطينية. حتى حزب الله، رغم سيطرته العسكرية شبه المطلقة في جنوب لبنان، لم يسعَ إلى إقامة "دويلة شيعية"، بل ظلَّ يتعامل بذكاء مع التوازنات السياسية الداخلية، وهو ما لم تفهمه حماس، التي كرَّست سيطرتها المطلقة على غزة، محوِّلةً القطاع إلى سجن كبير لسكانه، ومختبرٍ لتجارب إيران الإقليمية.
وإذا كان انقلاب 2007 أول ضربةٍ غبيةٍ للقضية الفلسطينية، فإن مغامرة السابع من أكتوبر كانت الضربة القاضية التي أنهت حكم حماس الفعلي لغزة. فبإيعاز من طهران، اندفعت الحركة نحو عملية عسكرية غير محسوبة "تحت شعار المقاومة وتحرير الأرض"، قدَّمتها الجزيرة وأذرعها الإعلامية على أنها "فتحٌ جديد"، دون أن تدرك أن نتائجها ستكون كارثيةً على أهل غزة.
لقد راهنت حماس بغباء على دعمٍ إيرانيٍّ غير مضمون، متناسيةً أن إيران لا تهتم بغزة ولا بفلسطين بقدر اهتمامها بترسيخ نفوذها في المنطقة، واستخدمت الحركة كورقة ضغط في صراعاتها الإقليمية، خاصةً في مواجهة أي تقارب عربي-إسرائيلي كان قد بدأ يتشكَّل، ولا سيما أن السعودية كانت تُصرُّ على أن أي تطبيع يجب أن يكون مرتبطًا بحل الدولتين.
النتيجة، وفي ظل آلة إعلامية ضخمةٍ مضلِّلة، تم الترويج لانتصار وهمي، لكن الواقع كان مأساويًّا متمثلًا بتهجير سكان غزة وتشريد الملايين، وعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وتدمير البنية التحتية للقطاع. وبعد كل هذا الدمار، تفاوض حماس اليوم على "كل ما كانت تمتلكه في غزة" قبل السابع من أكتوبر! أليس هذا غباءً سياسيًّا بامتياز؟
للأسف، نقولها: إنَّ أكبر إنجاز لحماس بعد سبعة عشر عامًا من حكم غزة هو أنها أضاعت غزة وأهلها، وتحولت إلى عبءٍ سياسيٍّ على الفلسطينيين، بينما منحت إسرائيل فرصة تاريخية لتحقيق مخططاتها بسبب تخبُّط الحركة وعجزها عن تبنِّي استراتيجيةٍ عقلانية.
نعيد التذكير بأن القضية الفلسطينية دفعت أثمانًا باهظة بسبب الانقسامات السياسية والتجاذبات الفصائلية، وحان الوقت لأن يدرك الجميع أنه لا مستقبل بلا توافق فلسطيني. وإن استمرار التشرذم الفلسطيني يُضعف أي جهدٍ حقيقيٍّ لتحصيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما أنَّه واجبٌ وطنيٌّ وأخلاقيٌّ أن تتوقف حالة التخوين المتبادلة، وأن يكف البعض عن توجيه الاتهامات جزافًا لمجرد الاختلاف في الرأي أو النهج السياسي. ولا يجوز أن يُترك القرار الفلسطيني رهينةً لأجندات خارجية، أو أن يُمارس البعض دور الوصي على القضية، بينما هم أدواتٌ مدفوعةٌ بأموالٍ وأجنداتٍ لا تريد لفلسطين أي خير.
أما حماس، فعليها أن تستوعب أن غزة ليست كيانًا مستقلًّا، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من فلسطين، وأنَّ مصير أهلها ليس ورقة مساومةٍ بيد إيران، ولا يُقرِّره إعلامٌ مضلِّلٌ يبيع الوهم والبطولات الزائفة.
اليوم، فلسطين تحتاج إلى كل نفسٍ صادق، وكل ضميرٍ حي، بلا متاجرةٍ وبلا مزايدات. من يريد الخير لفلسطين، فليعمل على وحدتها، ولينبذ الفرقة، وليواجه كل من يحاول استغلال القضية لأغراضه الخاصة. المعركة الحقيقية ليست على النفوذ بين الفصائل، بل من أجل الأرض والحقوق المسلوبة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة