هناك جدل فكري طويل حول إمكانية الاستفادة من ثمار الحداثة الأوروبية-الأمريكية دون أن تصيبنا سلبياتها.
وتزايد هذا الجدل مع دخول العالم في عصر العولمة بفعل التطورات التكنولوجية المتسارعة التي حوّلت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، مع ثورة الاتصالات والمعلومات وما صاحبها من ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.
من كل هذا، وللأسف الشديد، كان نصيب العالم الثالث عموما، والعالم العربي بصورة خاصة، الجلوس في مقعد المتفرج، بينما تقوم مؤسسات كبرى عابرة للقارات على صناعة وتشكيل وعي أبنائه، دون أن يكون له يد في ذلك، ولو حتى على مستوى الحماية.
واهم من يظن أن هناك شيئا محايدا في هذا الكون، التكنولوجيا ليست محايدة، بل إن ألعاب الأطفال ليست محايدة، هناك قيم وأجندات تقف خلف كل ذلك.
بالأمس القريب أجرت إحدى المحطات المحلية في الولايات المتحدة الأمريكية لقاءً مع رئيسة شركة "ديزني" لأفلام الأطفال، وتحدثت عن "الحالة المزرية والمؤلمة"، التي وجدت شركة "ديزني" عليها، وذرفت الدموع لأنه لا يوجد في أفلام الأطفال التي تنتجها الشركة "ما يراعي حقوق المثليين جنسيا"، لأن اثنين من أبناء رئيسة "ديزني" من هذه الفئة، ولا توجد أفلام "تحترم اختياراتهما"، ووعدت أن شركة "ديزني" في عهدها سوف تركز بقوة على إنتاج أفلام "تراعي حقوق المثليين"، حسب قولها.
هذا وعد صريح من رئيسة شركة تدخل كل بيت في العالم، وتسهم بالنصيب الأوفر في تشكيل وعي كل طفل في العالم، وبالتأكيد هناك أجندات وأفكار ورغبات عند كل من ينتجون ما يشكل وعي الأطفال والمراهقين في العالم، سواء الأفلام، أو الكرتون، أو الألعاب، أو الموسيقى والأغاني.
الجميع لديهم ما يؤمنون به، ويسعون إلى تحقيقه، وهم قادرون على ذلك، لأنهم يملكون الأدوات ويتفردون بها، ولا ينافسهم أحد.
وهنا ينبغي أن نركز على حقيقة في غاية الأهمية، وهي أننا نعيش في زمن تداخل فيه العالم الحقيقي مع العالم الافتراضي، وأصبح العالم الافتراضي أكثر حقيقية وواقعية وقربا إلى النفس من العالم الحقيقي، وليس أدل على ذلك من أن تجد أفراد الأسرة الواحدة يتواصلون عبر وسائل التواصل الإلكترونية أكثر من تواصلهم المباشر وهم في بيت واحد.
هذا التداخل ما بين العالم الحقيقي والعالم الافتراضي يجعل الخطر القادم أشد وأقسى.
فما يشاهده الطفل أو اليافع أو المراهق في العالم الافتراضي، سواء أفلام أو ألعاب أو غيرها، يشكل وعيه ويحدد توجهاته، ويرسم خريطة تصوراته عن كل ما يحيط به بصورة تفوق ما يقوم به العالم الحقيقي الذي يمثل حضوره في حياة هذه الفئة قدرا ضئيلا.
وإذا لاحظنا أن جرعة العنف والقتل والتدمير، التي توجد في الألعاب الإلكترونية تحتل معظم مساحة هذه الألعاب... هنا لا بد أن نتوقع أنه مع تطور الزمن سوف يتطابق القتل في اللعبة الإلكترونية مع القتل في الواقع.. حيث "نشوة القتل" في اللعبة الإلكترونية عالية جدا، وبالتالي ستكون "نشوة القتل" في الواقع الاجتماعي بالقدر نفسه.
وقد تابع الجميع حالات القتل التي حدثت من يافعين أو مراهقين في الولايات المتحدة وفي مصر والأردن، جميعها تحمل درجة من تلك النشوة، لأن من قاموا بها ليسوا مجرمين أو منحرفين أو مدمني مخدرات، بل إنهم من الفئة العمرية نفسها، ولم يمروا بتجارب سابقة تمرسوا فيها على الجريمة.. بحيث تشعر وأنت تتابع الأخبار أن أولئك "القتلة الجدد" إنما يعيدون تمثيل الألعاب نفسها على أرض الواقع مع بشر حقيقيين وليسوا مجرد كيانات خيالية في لعبة إلكترونية.
هذا الواقع الجديد يفرض تحدياتٍ كبيرة جدا على جميع الجهات المسؤولة عن تنشئة الأطفال واليافعين والمراهقين، حيث لا يمكن تحقيق الحماية من خلال المنع أو الحجْر، وإنما من خلال بناء المناعة الثقافية الذاتية، وتوفير البدائل الجاذبة المغرية التي تُبعد بصورة تلقائية هذا الجيل عن الواقع الافتراضي، وتعيد إدماجه في الواقع الاجتماعي الحقيقي فاعلا ومتفاعلا.
إن حماية الجيل القادم من أن يكون قاتلا أو مقتولا يجب أن تبدأ قبل فوات الأوان، فما يحدث في العالم الآن ليس سوى جرس إنذار ينبّه إلى خطورة التداخل بين العالم الافتراضي والعالمي الحقيقي، ومن ثمّ انعكاس سلبيات العالم الافتراضي في مجتمعاتنا، وتحول خيالاته، إلى وقائع تفكك مجتمعاتنا وتصادر مستقبلها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة