كيف كان جورج أورويل يرى الرياضة من منظور أدبي؟
يعتبر مقال"الروح الرياضية" لأورويل نصاً أدبياً عن تسييس الرياضة وهي أجواء نلمسها في كأس العالم روسيا 2018.
في إسقاط على مبدأ "اللعب النظيف" المتغلغل في الثقافة البريطانية الإمبريالية، كتب جورج أورويل هذه المقالة في ديسمبر/كانون الأول 1945، ونشرت بجريدة «تريبيون»، وذلك عقب انتهاء أول جولة رسمية في التاريخ لفريق كرة قدم سوفيتي في بريطانيا، كانت من نصيب فريق دينامو موسكو. كان قوام الجولة أربع مباريات، ربح نصفها الفريق الروسي (4–3) ضد أرسنال، 10-1 ضد كارديف سيتي)، وتعادل في النصف الآخر (3-3) ضد تشيلسي،(2-2 ضد رينجرز)، أمام أكثر من ربع مليون متفرج. بعبارة أخرى، لم يهزم ممثل الاتحاد السوفيتي في أي مباراة، وهو أمر لم يتقبله الجمهور بسعة صدر، رغم أن العلاقات البريطانية السوفيتية سيئة في ذاك الوقت. ونشر موقع " إضاءات" نص المقال الذي نسلط عليه الضوء لأهميته وتزامنه من كأس العالم روسيا 2018 وذكرى ميلاد جورج أورويل الـ115:
الروح الرياضية- بقلم: جورج أورويل
الآن، بعد انتهاء فريق دينامو لكرة القدم من زيارته القصيرة، يمكننا الجهر بما كان الكثيرون يقولونه في المجالس الخاصة، من قبل وصول الفريق: إن الرياضة دائماً سبب للضغينة، وإن أثر زيارة مثل هذه –لو كان ثمة أثر –على العلاقات الإنجليزية –السوفيتية لن يكون إلا سلبياً.
حتى الصحف عجزت عن إخفاء الحقيقة، وهي أن مباراتين على الأقل من بين الأربع مباريات قد أثارت الكثير من المشاعر السيئة. في مباراة أرسنال، أخبرني أحد الحضور بنشوب شجار بين لاعب إنجليزي وآخر روسي، وبتوجيه الجمهور صيحات الاستهجان إلى الحكم. أما عن مباراة جلاسكو، فأخبرني آخر أنها كانت –ببساطة –مشاجرة مفتوحة منذ البداية.
ثم ثار ذلك الجدل حول تشكيلة فريق أرسنال، وهو جدل يليق بعصرنا المتخم بالقومية:
"هل كان أرسنال فريقاً إنجليزياً تماماً مثلما زعم الروس، أم كان مجرد فريق من فرق الدوري مثلما زعم الإنجليز؟ وهل أنهى فريق دينامو جولته فجأة تجنباً لمواجهة فريق إنجليزي تماماً؟".
كالعادة، يجيب كل شخص عن هذه الأسئلة وفق ميوله السياسية. لكن لعل هذا تعميم لا يصح. إذ لاحظت باهتمام –وهذا مثال على المشاعر الخبيثة التي تثيرها كرة القدم –ما فعله المراسل الرياضي لجريدة «نيوز كرونيكل» العاشقة للروس، من تبنٍ للموقف المعادي للروس، وتأكيده أن أرسنال لم يكن فريقاً إنجليزياً بالكامل. لا شك أن أصداء هذا الجدل ستواصل الظهور في هوامش الكتب التاريخية لسنوات مقبلة. وفي هذه الأثناء، ستبقى لزيارة فريق دينامو نتيجة واحدة، وهي تجديد مستمر لشعلة العداوة المستعرة بين الجانبين.
وكيف لها أن تكون غير ذلك؟ دائماً ما أذهل حين أسمع الناس يقولون إن الرياضة تبث الصداقة والمودة بين الأمم، وإن عامة شعوب العالم لو يلتقون في مباراة كرة قدم أو كريكت لما مالوا إلى اللقاء في ساحة المعركة. فحتى لو لم يعرف المرء من الأمثلة الواضحة (مثل أوليمبيات ١٩٣٦) أن المسابقات الرياضية الدولية تؤدي إلى نوبات من الكراهية المفرطة، فيمكنه استنتاج ذلك من المبادئ العامة.
تكاد التنافسية أن تكون سمة جميع الألعاب الرياضية التي نمارسها اليوم. أنت تلعب كي تفوز، وليس للعبة معنى يذكر إن لم تبذل كل ما في وسعك للفوز. أما على البساط الأخضر في القرية، حيث تختار الفريق الذي تشاء، ولا مكان للوطنية المحلية، يمكنك اللعب ببساطة من أجل المتعة والتريض لكن ما إن تظهر نقطة «الوجاهة»، وما إن تشعر أنك – ومعك كيان أكبر – عرضة لـ«الخزي» حال الخسارة، حتى تستيقظ داخلك أكثر الغرائز القتالية وحشية.
يعرف ذلك كل من شارك في مباراة، حتى لو كانت كرة القدم المدرسية. والرياضة على المستوى الدولي محاكاة صريحة للحرب. لكن سلوك اللاعبين ليس الأهم، بل موقف المشجعين، ومن ورائهم الأمم التي تجهد أعصابها حتى تتأجج غضباً بسبب هذه المنافسات العبثية، وتؤمن بصدق –ولو لفترة قصيرة –أن في الركض والقفز وركل الكرة امتحان لوطنيتهم.
حتى لعبة هادئة مثل الكريكت، تتطلب وداعة لا قوة، يمكنها إثارة قدر كبير من الضغائن، مثلما رأينا في الجدل الدائر حول تكتيكات الفريق الأسترالي الذي زار إنجلترا عام ١٩٢١. وفي مباريات كرة القدم، حيث يتعرض الجميع للأذى، وتملك كل أمة أسلوب لعب يجده الآخرون ظالماً، يصبح الوضع أسوأ كثيراً. لكن الملاكمة هي أسوأ الألعاب قاطبة.
إن مباراة بين ملاكم أبيض وآخر ملون، أمام جمهور مختلط، لأحد أكثر المشاهد فظاعة في العالم. علاوة على هذا، مشجع الملاكمة مثير للاشمئزاز دائماً، خاصة النساء التي دفعت تصرفاتهن –في اعتقادي –الجيش إلى حظر حضورهن للمسابقات. فقبل عامين أو ثلاثة، حين كان الحرس الداخلي والقوات النظامية يقيمان بطولة للملاكمة، كُلفت بالحراسة عند باب القاعة، مع أوامر بمنع دخول النساء.
وصل الهوس بالرياضة في إنجلترا حد الكفاية، لكن مشاعر أكثر ضراوة وشراسة بدأت تظهر في بلدان شابة تعد فيها ممارسة الألعاب والانتماء القومي ظواهر حديثة؛ ففي بلاد مثل الهند وبورما، تستلزم مباريات كرة القدم تواجد وحدات قوية من رجال الشرطة لمنع الحشود من اقتحام الملعب. لقد رأيت مشجعي إحدى الفرقتين في بورما وهم يخترقون صفوف الشرطة ويعتدون على حارس مرمى الفريق الآخر بصورة تعجيزية في وقت حرج من المباراة. وعندما أقيمت أول مباراة كرة قدم ذات شأن في إسبانيا قبل خمسة عشر عاماً، وقعت أعمال شغب لم يمكن السيطرة عليها.
متى تثور روح تنافسية قوية يختفي مبدأ اللعب النظيف. ترغب الناس في رؤية أحد الجانبين متوجاً والآخر ذليلاً، وينسون أن الفوز المكتسب عبر الغش أو تدخل الجمهور لا معنى له. حتى لو لم يتدخل الجمهور فزيائياً فإنه يحاول التأثير على مجرى المباراة عبر تشجيع فريقه، وكسر اللاعبين المنافسين بصيحات الاستهجان والإهانة. لا علاقة بين الرياضة الجادة واللعب النظيف. بل إنها مرتبطة بالكراهية، والحسد، والتبجح، وتجاهل جميع القوانين، والمتعة السادية المكتسبة من مشاهدة العنف: بعبارة أخرى، إنها حرب بغير طلقات.
بدلاً من الثرثرة عن المنافسة الشريفة والصحية في ملاعب كرة القدم، وعن الدور الكبير الذي لعبته الأولمبياد في التأليف بين الأمم، يجدر التساؤل عن سبب وطريقة ظهور هذه الديانة الرياضية الحديثة، ذلك أكثر نفعاً.
تملك معظم الألعاب التي نمارسها الآن جذوراً قديمة، لكن لا يبدو أن الرياضة قد عوملت بجدية ما بين زمن الرومان والقرن التاسع عشر. حتى إن الديانة الرياضية لم تظهر في فصول المدارس الإنجليزية العامة قبل النصف الثاني من القرن الماضي.
كان الدكتور أرنولد، الذي يعتبر مؤسس المدرسة العامة الحديثة بشكل عام، يرى في الألعاب الرياضية مجرد مضيعة للوقت. ثم أقيمت الألعاب في إنجلترا والولايات المتحدة كنشاط مرتفع التكلفة، قادر على جذب أعداد هائلة من الجمهور، وإثارة مشاعر وحشية، لينتقل الوباء من بلد إلى آخر.
كانت أكثر الرياضات التنافسية انتشاراً هي أكثرها عنفاً، أي كرة القدم والملاكمة. لا شك أن الأمر كله مرتبط بصعود القومية ومعها التقليد الجنوني الحديث الذي يدفع المرء إلى استمداد هويته من الانتماء إلى مجموعات أكبر وأقوى، وتقييم كل شيء على أساس الوجاهة التنافسية. إضافة إلى أن الألعاب المنظمة أكثر عرضة للازدهار في المجتمعات المدنية التي يحيا فيها الإنسان العادي حياة يغلب عليها الثبات والاستقرار، أو هي حياة مقيدة على أقل تقدير، كما لا يتمتع بفرصة كبيرة في ممارسة عمل إبداعي.
يتخلص الولد أو الشاب في المجتمع الزراعي من قدر كبير من فائض طاقته عبر المشي، أو السباحة، أو قذف كرات الثلج، أو تسلق الأشجار، أو ركوب الخيل، أو ممارسة رياضات أخرى تتضمن إيذاء الحيوانات مثل صيد الأسماك وصراع الديكة ومطاردة الفئران.
بينما يحتاج المرء في المدن الكبيرة إلى الانخراط في أنشطة جماعية إذا أراد متنفساً لقوته البدنية أو نزعاته السادية.
تُعامل الألعاب الرياضية في لندن ونيويورك بجدية، وهكذا كان الحال في روما وبيزنطة.
كان اللعب في العصور الوسطى يتضمن قسوة فزيائية كبيرة، إلا أنه لم يكن يُخلط بالسياسة ولا يتسبب في كراهية لجماعات معينة. إذا أردت زيادة مخزون الكراهية الحالي في العالم، فلن تجد لذلك وسيلة أفضل من سلسلة مباريات كرة قدم بين اليهود والعرب، والألمان والتشيكيين، والهنود والبريطانيين، والروس والبولنديين، والإيطاليين واليوغوسلافيين، بحضور جمهور مختلط قدره 100 ألف متفرج في كل مباراة.
لا أقصد بذلك إطلاقاً أن الرياضة من أسباب الصراع العالمي الرئيسية، فالرياضة الجماهيرية نفسها، في ظني، مجرد أثر آخر للأسباب التي أنتجت القومية. لكن يظل إرسالك فريقاً من أحد عشر رجلاً، مصنفين كأبطال قوميين، لمواجهة فريق منافس، مع السماح بذيوع فكرة خسارة الأمة المهزومة لشيء من كرامتها بين الجانبين، تصرف لن تزيد به الأمور إلا سوءاً.
لذا، آمل في ألا نتبع زيارة دينامو بإرسال فريق بريطاني إلى الاتحاد السوفيتي. ولو كنا لا محالة فاعلين، فلنرسل أحد فرق الدرجة الثانية، التي لا شك في خسارتها، ولا سبيل إلى اعتبارها ممثلاً عن بريطانيا ككل. لدينا الآن من أسباب الخلاف ما يكفينا، ولسنا بحاجة إلى زيادتها بتشجيع بعض الشباب على ركل سيقان البعض الآخر على أنغام صيحات الجماهير الغاضبة.
aXA6IDMuMTQ3LjQ4LjEwNSA= جزيرة ام اند امز