نهاية الأسبوع الماضي، التقى الرئيس الأمريكي مستشارة ألمانيا، أنجيلا ميركل، كأول زعيمة أوروبية تزور البيت الأبيض بعد انتخاب "بايدن".
ورأى كثير من المراقبين أن اللقاء يمكن أن يكون فرصة جيدة لمناقشة العلاقة الألمانية-الأمريكية والتحديات الجيوسياسية وقضايا التغير المناخي، وتوزيع اللقاحات المضادة لكوفيد-19، ومستقبل أفغانستان بعد انسحاب الناتو، وغيرها.
في واشنطن، توقف معظم المراقبين عند تحليل هذه الزيارة، فعلى مدى السنوات الماضية كانت هناك ملفات شائكة وقضايا عكرت صفو العلاقة مع ألمانيا، فهل تنجح "ميركل" خلال لقائها "بايدن" في طي صفحة الخلافات وإعادة الدفء للعلاقة بين أمريكا وألمانيا؟
ما سمعته من أكثر من سيناتور في الكونجرس هو أن مسؤولي السياسة الخارجية الأمريكية على قناعة بأن عليهم -على الدوام- التحدث مع المستشارة الألمانية عندما يريدون مناقشة القضايا الأوروبية، فهي -حسب رأيهم- شخصية قوية ومتزنة وجديرة بالاحترام فيما يتعلق بالشؤون الخارجية.
أعلن مؤخراً عن ثمار هذا اللقاء المهم، وقبل أن أحلل نتائجه لا بد أن أشير بداية إلى أنه لا يمكن إنكار أو التقليل من فضل أمريكا على نهضة ألمانيا، ولكن تستحق عناصر أخرى أن يُعترف بفضلها على تطور القوة الاقتصادية الألمانية، ومن ثم قيادتها الفريدة في نوعها لأوروبا.
أولى ثمار هذه الزيارة هو الموقف الألماني الواضح فيما يخص خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، الذي تزعم روسيا بدء العمل به قريبا رغم محاولات الولايات المتحدة تسييسه، مؤكدة، حسب زعمها، أن موسكو لم ولن تستخدم مسألة عبور الغاز وتوفير موارد الطاقة كسلاح، والموقف الألماني هنا هو أن ألمانيا ستعمل على الحد من قدرة روسيا على تصدير الطاقة إذا اتخذت موسكو إجراءات عدوانية ضد أوكرانيا أو استخدمت الطاقة كسلاح، وهذا هو نص الاتفاق الأمريكي-الألماني بشأن خط أنابيب نورد ستريم 2 المذكور.
ويهدف الاتفاق إلى التخفيف مما يعتبره النقاد "مخاطر استراتيجية" لخط الأنابيب، الذي تبلغ تكلفته 11 مليار دولار، والذي اكتمل بناؤه الآن بنسبة 98٪، ويجري بناؤه تحت بحر البلطيق لنقل الغاز من منطقة القطب الشمالي في روسيا إلى ألمانيا.
الإدارة الأمريكية كشفت عن جوانب من الاتفاق، الذي تم التوصل إليه بين الولايات المتحدة وألمانيا حول هذا المشروع على لسان فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، التي أعلنت خلال جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي أنه "ضمن إطار الاتفاق الذي تم التوصل إليه تتعهد ألمانيا بممارسة الضغط على الاتحاد الأوروبي لحمله على اتخاذ تدابير تشمل العقوبات، للحد من تصدير الطاقة الروسية إلى أوروبا إذا استخدمت روسيا الطاقة سلاحا".
عموما فقد سعى الأمريكيون إلى صياغة الاتفاق بشكل محدَّد، يستوجب وقف ألمانيا تدفُّق الغاز عبر "نورد ستريم 2" في حال مارست روسيا نفوذاً غير مشروع على أوكرانيا، كذلك فإن ألمانيا ستسهم في صندوق جديد بقيمة مليار دولار يهدف إلى تحسين استغلال الطاقة في أوكرانيا، بما في ذلك من خلال الاستثمارات في الهيدروجين الأخضر، حسبما أعلن في الصحافة الألمانية.
خلال مناقشة مع أحد الصحفيين، سألته عن حجم ألمانيا أوروبيا، وبمعنى أوضح: هل نحن الآن أمام ألمانيا أوروبية أم أوروبا ألمانية؟
وكانت إجابته صادمة لي، فقد قال إنه ليس هناك فضل كبير لألمانيا على ميلاد مشروع الوحدة الأوروبية، لكن اليوم هناك القيم الحقوقية والديمقراطية واحترام الحريات الأساسية والنظر في إمكانية النهوض على قيادة مشتركة ألمانية فرنسية، توحي برسالة تدعو إلى قيام سلم أوروبي طويل الأمد، ونهضة اقتصادية تدعمها الولايات المتحدة.. وهذه الجملة الأخيرة هي مجال تحليلنا هنا.
الصحافة الأمريكية لا تزال تراقب تداعيات ثمار الزيارة، وكان لافتا ذلك التحليل الذي أعده الصحفي إيلي ستوكولز ونشرته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" تحت عنوان "بايدن وميركل يجددان تأكيد التعاون الأمريكي الألماني مع اقتراب أفول سيطرتها على الساحة الأوروبية".
وأشار في مستهل التحليل إلى أن الرئيس بايدن والمستشارة الألمانية ميركل سعيا إلى توسيع التعاون بين بلديهما، في اجتماعات عُقدت في "البيت الأبيض"، فيما من المرجح أن تكون تلك هي الزيارة الأخيرة لميركل، وهي في منصبها، وهي واحدة من أهم حلفاء الولايات المتحدة، قبل أن تترك المنصب الذي شغلته منذ 16 عاما، وقد ناقش الزعيمان -اللذان تشكل دولتاهما ركائز التحالف عبر الأطلسي- مجموعة من القضايا التي تجمع بينها أرضية مشتركة: تغير المناخ، ووباء كورونا، والتحديات الأمنية في أفغانستان وإيران وليبيا وأوروبا الشرقية، لكنهما حاولا أيضا سد فجوتين بينهما، بما في ذلك خط أنابيب الغاز الروسي "نورد ستريم الثاني" شبه المكتمل إلى ألمانيا، وهو ما عارضته الولايات المتحدة، ورغبت الإدارة الأمريكية في أن تتخذ ألمانيا موقفاً أكثر صرامة تجاه الصين، أكبر شريك تجاري لها.
من جانبه، وصف "بايدن" المستشارة "ميركل" بأنها "صديقة عظيمة وصديقة شخصية وصديقة للولايات المتحدة"، في تصريحات للصحفيين، بينما بدأ الزعيمان اجتماعهما، وقد نالت "ميركل" المزيد من الثناء عليها خلال المؤتمر الصحفي المشترك، الذي عُقد في وقت لاحق، حيث شكرها "بايدن" على "القيادة القوية والمبادئ الراسخة" وكونها "بطلة قوية في تحالف عبر الأطلسي".
وقالت "ميركل"، التي كانت علاقاتها مع الرئيس السابق "ترامب" متوترة بشكل ملحوظ: "أتطلع بشدة إلى تعميق العلاقة مرة أخرى".
وفي وقت لاحق، وصفت الاجتماعات مع "بايدن" مرتين بأنها "ودية للغاية"، وأخبرت الصحفيين أن البلدين "يشتركان في القيم نفسها"، وهما مصممان بالقدر نفسه على معالجة المشكلات الدولية "في لحظة حاسمة".. انتهى كلام إيلي ستوكولز.
اليوم بدا التأثير الألماني جليا داخل المنظومة الأوروبية، حيث صارت ألمانيا بالنسبة للولايات المتحدة "رمانة الميزان" داخل الاتحاد الأوروبي، واليوم أيضاً كشف المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أن الجولة السابعة من محادثات فيينا حول إعادة إحياء الاتفاق النووي "لم تحدد بعد، وأن إيران في وسط عملية انتقالية، ومن الواضح أن لديهم قرارات عليهم اتخاذها داخل نظامهم، ولا نريد التوقع كيف ستسير الأمور، وكيف يمكن أن تكون العواقب".
خلاصة القول.. ها هو الاتحاد الأوروبي يصغي يوما بعد يوم إلى الموقف الألماني داخله، وإن كانت الدبلوماسية تستمر في تشكيل الأداة الأكثر فاعلية للتحقق من عدم امتلاك إيران للسلاح النووي، فإن هذه العملية لا يمكن أن تكون غير محددة، وهذا هو الموقف المطلوب أمريكيا من أوروبا خلال الأيام المقبلة، في انتظار الجولة السابعة، التي لن يكون الموقف الألماني فيها بعيدا عن الموقف الأمريكي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة