مما لا شك فيه أن الصين تُمثِّل قوة التغيير الأساسية في النظام الدولي الراهن على مستوياته الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية كافة. إذ إن الولايات المتحدة تعتبرها التحدي الرئيسي لمكانتها الدولية.
وهناك اختلاف في الطريقة التي ينظر بها الأمريكيون إلى التحدي الصيني، فبينما يُركِّز الرئيس الأمريكي بايدن، ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، على أن العلاقة بين البلدين هي "علاقة تنافس"، فإن وسائل الإعلام ومسؤولي الأجهزة الاستخباراتية عادة ما يصفون العلاقة بـ"الصراع"، وتجلَّى ذلك في تصريح مايك بنس، نائب رئيس الجمهورية السابق، في 14 يوليو 2021 بأن الصين "تُمثِّل خطراً على أمريكا أكثر مما مثَّله الاتحاد السوفييتي في فترة الحرب الباردة".
وأياً كان التعبير المستخدم، فإن الصين هي الدولة الأولى التي ترصد أمريكا تحركاتها وأفعالها، ليس فقط تجاه واشنطن وإنما تجاه كل دول العالم.
وذلك لأن الصين تمتلك مشروعاً عالمياً، هو الحزام والطريق، وتتبنى مفهوماً خاصاً بالعولمة، قوامه التعاون الاقتصادي، الذي يُتيح لها فرصة الانخراط في علاقات تبادل وتعاون مشترك مع جميع الدول بغض النظر عن أشكال نُظم حُكمها وتوجهاتها السياسية والأيديولوجية، ما أعطى مشروعها رواجاً هائلاً لم يقتصر على الدول النامية في آسيا وأفريقيا، بل امتد إلى الاتحاد الأوروبي الذي وقَّع في 30 ديسمبر 2020 الاتفاقية الشاملة للاستثمار مع الصين.
وتم ذلك في الوقت، الذي كان فيه الرئيس ترامب يُحذر حلفاءه الأوروبيين من توثيق العلاقات مع الصين، وبالذات في مجال الاتصالات وتكنولوجيا الجيل الخامس.
يزيد من التخوفات الأمريكية أن الصين تمتلك الموارد والقدرات اللازمة لتنفيذ مشروعها العالمي، والذي يهدف إلى زيادة الترابط والتواصل Connectivity بينها وبين الدول الأُخرى، فقامت بعشرات المشروعات لشق الطرق ومد خطوط السكك الحديدية وتوسيع الموانئ ونشر الكابلات البحرية التي تنقل المعلومات في أعماق البحر.
من أمثلة ذلك، الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، الذي يتضمن شق طريق بري بين محافظة كاشغر، غرب الصين، وميناء "كوادر" على الساحل الجنوبي الغربي من باكستان، وتوقيع اتفاقية تعطي للصين حق إدارة الميناء لمدة 43 سنة.
وسمح ذلك للصين بأن يكون لها منفذ على بحر العرب، وعلى المسار المؤدي لمضيق هُرمز، الشريان الحيوي لحركة ناقلات النفط العالمية.
ومنها أيضاً، مد خط للسكك الحديدية يبلغ طوله أكثر من 10 آلاف كيلومتر من الصين إلى إيران مروراً بأراضي قزاقستان وتركمانستان.
وكذلك الاتفاقية المُوقَّعة مع إسرائيل لتطوير وإدارة ميناء حيفا لمدة 25 عاماً.
كما مدت الصين خطوط الكابلات البحرية التي تتدفق من خلالها الاتصالات والمعلومات لآلاف الكيلومترات، وكان من شأن ذلك أن تضاعَف حجم التبادُل التجاري للصين مع كل القارات، وحجم الاستثمارات الصينية فيها.
رافق كل ما تقدم قدرة الاقتصاد الصيني على الاحتفاظ بمعدلات نمو سريعة فاقت نسبة 10% لأكثر من 20 سنة، الأمر الذي جعله ينافس الاقتصاد الأمريكي على صدارة الاقتصاد العالمي بفارق بسيط بينهما، ومكَّنه من تخصيص استثمارات ضخمة في تطوير بنيتها التحتية والارتقاء بها، والتي اعترف الرئيس بايدن بتفوقها على نظيرتها الأمريكية، وكذلك في مجالات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والفضاء والأسلحة المتطورة، وقيامها، حَسب مصادر المعلومات الأمريكية والغربية، بإنشاء جُزر صناعية في بحر الصين الجنوبي وتعميرها بالبشر والمنشآت ونشر قواتها فيها، مما يوسع من مساحة المياه الإقليمية لها، فضلاً عن إقامة قواعد عسكرية لها في كمبوديا وجيبوتي.
وهناك أمور أخرى لا تحتل الاهتمام الكافي من جانب الإعلام رغم أهميتها القصوى، مثل الاعتماد الأمريكي على الصين في توفير ما يُسمَّى بـ"المعادن النفيسة" أو النادرة، فهي توصف بذلك لأهميتها الفائقة في التكنولوجيات الحديثة، مثل أشعة الليزر والأجهزة الإلكترونية الضوئية، ونُظُم الرادار والتوجيه الإلكتروني، والأقمار الاصطناعية، وكذلك صناعات الأسلحة مثل القنابل الذكية، وأجهزة الحرب المضادة للغواصات.
وقد تراجع الإنتاج الأمريكي من غالبية هذه المعادن، وزاد اعتمادها على الاستيراد من الصين التي تتحكم في قرابة 90% من الإنتاج العالمي.
ويخشى المسؤولون الأمريكيون من استخدام الصين تفوقها في هذا المجال كورقة ضغط على أمريكا، يؤكد ذلك أنه في عام 2010 منعت الصين تصدير هذه المعادن إلى اليابان كعقاب لها.
تظلِّل كل ما تقدم علاقات الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، اللتين تجمعهما الرغبة المشتركة في تغيير قواعد النظام العالمي، وعدم الاعتراف بالمكانة المتميزة أو القائدة للولايات المتحدة فيه.
ومن جانبها، تسعى واشنطن إلى إضعاف تلك الشراكة وإعطاء الانطباع بأنها سوف تحسن من علاقاتها مع موسكو، خاصة في أعقاب اجتماع القمة بين الرئيسين بايدن وبوتين في 16 يونيو الماضي.
الصين بدورها متنبهة إلى هذا السعي، وأكدت أنه لن ينجح أحد في دق "إسفين" بين بكين وموسكو، وأن الانطلاقة الصينية لا يمكن وقفها أو تعطيلها، كما ذكر ذلك الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطابه يوم 1 يوليو الماضي، بمناسبة الاحتفال بذكرى مرور قرن على إنشاء الحزب الشيوعي الصيني.
ومن الأرجح، أن يُسجل مؤرخو الغد أن صعود الصين كان أهم تطور استراتيجي في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وأنه قوة التغيير الرئيسية في النظام العالمي الراهن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة