لم تأبه تركيا لقرارات مجلس الأمن الدولي بشأن منطقة فاروشا التي تفصل جنوب قبرص عن شمالها، وتأكيده "المجلس" عدم جواز التوطين فيها من غير سكانها الأصليين.
كما لم تأبه بقرار المجلس حول وضع المنطقة المذكورة تحت حماية قوات حفظ السلام الدولية، ففي الذكرى السابعة والأربعين للاحتلال التركي لشمال قبرص زار "أردوغان" "فاروشا"، جاعلا منها منصة لتحقيق أجندته التي تتمحور حول التقسيم النهائي للجزيرة القبرصية من بوابة حل الدولتين، بدلا من الجهود الأممية، التي بذلت طوال العقود الماضية لتوحيد الجزيرة، عبر إقامة كيانين فيدراليين فيها.
طرح حل الدولتين جاء بعد ما يشبه الانقلاب الأبيض في "جمهورية شمال قبرص"، عندما وضع "أردوغان" كل ثقله إلى جانب القومي أرسين تتار في مواجهة الديمقراطي مصطفى أكينجي، الذي سعى إلى توحيد الجزيرة المقسمة منذ الغزو التركي لشمالها عام 1974، فما الذي أراده "أردوغان" من الدفع بالوضع في شمال قبرص على هذا النحو؟
لا شك أن أهدافا كثيرة وضعها "أردوغان" نصب عينيه من هذه السياسة، لعل أهمها:
1- اعتماد سياسة جديدة تجاه القضية القبرصية، وهي سياسة تهدف إلى إقامة دولتين منفصلتين في الجزيرة بدلا من توحيدها، إذ لسان حاله بات يقول إن القواعد السابقة لإدارة الأزمة القبرصية لم تعد صالحة، وحل الدولتين هو الوحيد في المرحلة المقبلة.
2- جعل شمال قبرص منصة في وجه قبرص واليونان وأوروبا، وحتى الولايات المتحدة، لتحقيق جملة من الأهداف التي خطط لها، وفي المقدمة منها محاولة الوصول إلى موارد الطاقة في شرقي المتوسط، لا سيما بعدما وجد أن بلاده باتت معزولة بحكم تحالفات الطاقة التي نشأت في "المتوسط" بين اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر، وشكلت فيها منتدى غاز المتوسط.
3- النفخ في الروح القومية التركية-العثمانية، وهذه استراتيجية يتبعها في مناطق الجوار التركي، من آسيا الوسطى إلى شمال قبرص، مرورا بشمالي سوريا والعراق وصولا إلى البلقان، ولعل هذا ما يفسر مرافقة رئيس حزب الحركة القومية المتطرفة، دولت باهجلي، لأردوغان في زيارته الأخيرة إلى شمال قبرص.
4- فرض سياسة الأمر الواقع "في جمهورية شمال قبرص"، التي لا يعترف بها أحد سوى تركيا رغم إعلانها منذ عام 1983، من خلال جعل شمال قبرص رهينة له لتحقيق أجندته، وهو يعتقد أنه بهذه السياسة سينجح في جلب اعتراف إقليمي ودولي بجمهورية شمال قبرص.
دون شك، فإن هذه المقاربة الجديدة لتركيا تجاه قبرص تعني أنها قررت نسف كل الجهود والاتفاقيات الدولية، التي وُضعت لحل المشكلة القبرصية، كما تعني أنها قررت التصعيد في وجه الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن مرارا رفضه سياسة تقسيم الجزيرة، وبقاء القوات العسكرية التركية في شمالها، وإلا كيف يمكن فهم إصرار تركيا على فتح أجزاء جديدة من منطقة فاروشا؟ وماذا عن حقوق القبارصة الأصليين الذين كانوا يسكنون المنطقة؟
قد يقول "أردوغان" إنه سيقدم لهم التعويض المالي، ولكنه يدرك مسبقا أن هؤلاء سيرفضون عرضه، وهذا ما يريده بالضبط، إذ إنه سيجعل من هذا الرفض حجة لتنفيذ أجندته، والقول إنهم لا يريدون الحل، وإن الحل الوحيد هو إقامة دولتين، وهذا ما يفسر الإصرار التركي على إفشال الجلسات التي عقدتها الأمم المتحدة لحل المشكلة القبرصية، والتي كان آخرها في أبريل الماضي.
ما يهم "أردوغان" ليس الهوية الوطنية لقبرص، ولا مصلحة القبارصة الأتراك أنفسهم، وإنما أجندته الإقليمية أولا وأخيرا، وهو بهذا يكرس تقسيم الجزيرة إلى الأبد، كما يقضي على حلم شمال قبرص بالانضمام إلى العضوية الأوروبية، ويضع القبارصة الأتراك أمام تحديات كبيرة، خاصة أن مثل هذه السياسة قد تجلب ردود فعل أوروبية غاضبة تجاه سياسة "أرودغان" في قبرص، لا سيما أن أوروبا صبرت عليه طويلا، إلى درجة أن هذا الصبر أفقد بروكسل مصداقيتها السياسية إزاء ما يقوم به "أردوغان" في قبرص.
الأمر نفسه ينطبق على الموقف الأمريكي، حيث عقد، بالتزامن مع زيارة "أردوغان" لشمال قبرص، أعضاء من الكونجرس الأمريكي مؤتمرا بشأن المشكلة القبرصية.
من الواضح أن تركيا قررت التصعيد في شمال قبرص ضد قبرص واليونان وأوروبا والأمم المتحدة بخرقها المتواصل لقرارات الأخيرة بشأن فاروشا، فهي تريد توسيع نفوذها هناك، وإقامة المنتزهات فوق الألم، في لحظة يرى المتابعون أنها قد تفجر النزاع المجمد في قبرص إلى حرب مفتوحة، لا سيما أنه لم يعد في جعبة بروكسل ما تقوله للقبارصة واليونانيين بعد كل هذه السياسة الاستفزازية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة