تشير حركة "داعش" الراهنة إلى تحركات متعددة يعمل التنظيم على اتباعها، ومحاولة إعادة وجوده في بعض التمركزات في الإقليم وخارجه.
وهو ما اتضح من مجمل تحركاته المدروسة في جنوب الساحل والصحراء وأحزمة الانتشار في العراق وسوريا، وصولا إلى الحدود السورية-الأردنية، وفي مناطق التماس الاستراتيجية في اليمن، وبعض الدول الآسيوية، الأمر الذي يطرح مخاطر حقيقية حول مبررات وأهداف الحضور الاستراتيجي في الوقت الراهن، وما يستهدفه في ظل تباين الرؤى، والمواقف من الدول الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة، في تجديد صور المواجهة التي خفتت لبعض الوقت، وتحتاج إلى مراجعة حقيقية حاليا، إذ إن البديل قد يكون انطلاق التنظيم للعمل في مساحات شاسعة في الإقليم وخارجه، مع افتراض أنه يحظى بدعم ومساندة من بعض التنظيمات الإرهابية الفرعية التي تدين له.
وبالتالي فإن الأمر ليس سهلا، ولا يقتصر على الحركة الأمنية، وإنما سيمتد إلى مجالات للحركة الكبيرة في نطاقات متعددة، خاصة أن بعض المدن العراقية والسورية شهدت خلال الأسابيع الأخيرة تحركات وعمليات لعناصر تنظيم داعش، التي تزامنت مع تحذيرات دولية من مغبة تجميع التنظيم صفوفه من جديد في البلدين وفي مواقع أخرى، مع توزع عناصر تنظيم داعش على بؤر عدة في بعض المناطق والأقاليم، يدير من خلالها حروبه عبر شبكات، واستحداث مصادر جديدة للتمويل والدعاية، والاعتماد أكثر على المواجهات غير المباشرة، وهو ما برز في محاولات إرهابيي "داعش" للعودة بالهجوم على نقاط تفتيش أمنية، واغتيال عناصر بالمدن العراقية، رغم بقاء مجموعات صغيرة من المقاتلين بين الجبال والوديان، إضافة إلى التحرك لحشد من المسلحين والموارد.
وفي سوريا استمرت العمليات العسكرية الموجهة ضد التنظيم، وتصدى الجيش السوري لهجوم شنه "داعش" على مواقع عسكرية في بادية الرصافة جنوب غربي الرقة.
وسترتبط عودة داعش في كل الأحوال بأمرين، الأول تمركز بقايا التنظيم في مناطق بالعراق وسوريا، وعلى حدود التماس بين الحدود السورية-الأردنية، والثاني يتمثل في عدم اعتماده على الإقامة في دول محددة، خاصة بعد طرده من سوريا والعراق، وفشله في الاستقرار بمناطق بديلة لهما، مما دفعه إلى الانتشار في بؤر متعددة، مع التوقع أن داعش لن يعود هذه المرة بشكله القديم فيما يتعلق بإعلان دولة خلافة وتأسيس مقر ثابت ومستقر، بل تفضل عناصره الوجود في نقاط التماس ومناطق جنوب الساحل والصحراء في أفريقيا وغرب ليبيا، لتحصل على دعم التنظيمات الإرهابية الأخرى المرتبطة بها فكريا وتسيطر على تلك المناطق مثل تنظيم بوكو حرام في نيجيريا.
ورغم ضعف مصادر التمويل الخارجية للتنظيم، فإنه يمتلك من الاحتياطي النقدي ما يقدر بنحو 100 مليون دولار، وفقا لتقديرات لجنة "معاقبة القاعدة وداعش" التابعة لمجلس الأمن، بينما أشارت لجنة الجزاءات بالأمم المتحدة إلى أن هذا المبلغ يمثل ثلث أموال داعش.
كما يستفيد التنظيم من وجوده بالعراق وسوريا، في إيجاد مصادر للتمويل من دول في آسيا وأفريقيا، إضافة إلى أموال الفدية التي يحصل عليها من عمليات الخطف، كما تجب الإشارة إلى تطوير التنظيم آلته الإعلامية، بفتح قنوات جديدة على تطبيق تليجرام وتدشين حسابات بتويتر، بدلا من الاعتماد على وكالة أنباء أو مجلة في الترويج لأفكاره، كما أن تكتيك داعش استغل مرحلة ما بعد الهزيمة للتحرك بحرية، بعد اختفاء أعباء إدارة المدن التي وقعت تحت سيطرته، وأطلق في فترة جائحة كورونا معارك استنزافية بالضغط على القوات السورية والروسية، من خلال شن هجمات ضد البادية وإدلب بشمال سوريا.
الخطورة أن عدد العمليات الإرهابية، التي قام بها التنظيم في دول المنطقة والعالم، ارتفع بشكل كبير، وعادت لما قبل سقوط آخر معقل له في بلدة الباغوز على الحدود السورية-العراقية مارس/آذار 2019.
كما أن التنظيم بدأ ينشط خارج معاقله التقليدية لينفذ عمليات في دول مثل الهند، وإندونيسيا، وليبيا، ومنها عمليتان متعاقبتان في ليبيا، ومن قبلها نفذ التنظيم هجوما انتحاريا في مدينة سبها، جنوب ليبيا.
وهناك مناطق جديدة يوجد فيها داعش بقوة، بعدما كان وجوده بها ضئيلا، مثل منطقة الصحراء والساحل بأفريقيا، والأزمة ليست في الوجود، وإنما في التنامي والسيطرة، وإعادة تموضع التنظيم في بؤر جديدة، والاستحواذ على بعض المناطق الجغرافية الجديدة التي تعاني أوضاعا أمنية واقتصادية هشة، مثل فرع التنظيم في غرب أفريقيا، حيث ارتفعت العمليات في النيجر، وتشاد، ومالي، وبوركينا فاسو، بشكل كبير، وسيطر على بعض المناطق الجغرافية الجديدة.
وقد أعاد التنظيم تموضعه في آسيا، حيث أقام تشكيلا جديدا هناك، فاستهداف الهند كان لافتا جدا، والعملية الإرهابية في إندونيسيا، والقبض على بعض الخلايا الجديدة هناك، والتي ثبت أنها تابعة لداعش، بخلاف النفوذ الكبير والقدرات الكبيرة المتنامية في فرع التنظيم في خراسان، وتنفيذ عمليات نوعية كبيرة في كشمير، في المنطقة الحدودية بين الهند وباكستان، كل ذلك يشير إلى أن التنظيم بدأ يركز على بعض المناطق في آسيا، وأفريقيا كمناطق نفوذ جديدة.
والمعنى أن التنظيم لا يزال قادرا على تنفيذ عمليات مسلحة كبيرة، وهناك أسباب أخرى ستزيد من قوة التنظيم، والتنظيمات المتطرفة، مثل انسحاب القوات الدولية والأمريكية من أفغانستان، حيث من المتوقع أن يتحرك التنظيم الإرهابي وغيره مثل القاعدة وطالبان بحرية أكبر.
وبالتالي، فإن العالم سيعاني من داعش مجددا خلال العقدين أو العقود الثلاثة القادمة على الأقل، حتى يتمكن من السيطرة عليه.
ويربط مراقبون بين توقيت تنامي نشاط التنظيم مع محاولات عرقلة انفتاح العراق على المحيط العربي.
وليس بمستبعد أن فكرة "الشام الجديد" دفعت التنظيم إلى تكثيف عملياته في العراق، الأمر الذي أدى إلى الاندفاع في إعادة تفعيل نشاط داعش لعرقلة مساعي إنجاحه، وبالتالي فإن أغلب التقييمات الراهنة لدى أجهزة المعلومات تفيد بأن التنظيم لم يهزم بشكل تام، وأن ما جرى يمثّل تراجعا تكتيكيا ليس أكثر، لأن الأسباب التي تؤدي إلى استمراره وتمدده لا تزال قائمة.
وفي ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية في بعض مناطق نفوذ التنظيم، يصبح من الوارد عمل التنظيم على استثمار ما يجري، وتوظيفه لحساباته الاستراتيجية والاقتصادية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تبعات مكلفة على الجميع في ظل ما يجري إقليميا ودوليا في إطار الحرب على الإرهاب، وتعمد الإدارة الأمريكية اتباع استراتيجيات منفردة مع الإبقاء على التحالف الدولي كواجهة حقيقية لما سيجري في المواجهة المفترض أن تتم مع تنظيم داعش، منعا لتمدد وجوده مجددا، وفي ظل مخطط يقوم به التنظيم استراتيجيا وأمنيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة