ليس بإمكان أمريكا استهداف ألمانيا وحدها، لذا فهي تسعى إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي للوصول إلى اتفاق تجاري تنتزع فيه تنازلات تجارية.
قبل أن يصل رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب إلى السلطة، كان قد أعلن عن خطة للوصول إلى هدف "أمريكا أولاً"، وهو ما أوصله إلى السلطة في المقام الأول. ومن بين هذه الأهداف هو ممارسة الضغوط على شركائها التجاريين وهم الاتحاد الأوروبي وفي القلب منه ألمانيا، إذ دأب أقطاب الحملة ثم أقطاب الإدارة الأمريكية على ذكر ألمانيا باعتبارها بلدًا يحقق فائضا تجاريا كبيرا مع بلدهم.
السيارات والأمن القومي
بعد يومين على صدور تقرير لوزارة التجارة الأمريكية يبدو أنه توصل إلى أن واردات السيارات الأوروبية تمثل تهديدا للأمن القومي الأمريكي، وهو تقرير كان قد شرع العمل فيه منذ شهر مايو/أيار 2018، قال الرئيس الأمريكي يوم 20 فبراير/شباط الماضي عقب لقاء مع المستشار النمساوي في البيت الأبيض "إن قرارًا بشأن احتمال فرض رسوم جمركية على واردات السيارات يتوقف على التوصل إلى اتفاق تجاري مع أوروبا". وكان الرئيس قد أعلن في وقت سابق أنه يمكن فرض جمارك بنسبة 25% على السيارات المستوردة وأجزائها وقطع غيارها، وهو ما بدا أنه يستهدف ألمانيا بشكل خاص.
ليس بإمكان الولايات المتحدة استهداف ألمانيا وحدها، لذا فهي تسعى إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي للوصول إلى اتفاق تجاري تنتزع فيه تنازلات تجارية مهمة من الاتحاد ككل، وعلى رأسه طبعا ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأكبر والمُصدِر الأكبر والطرف الذي يحقق فائضا تجاريا كبيرا معها
وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد نفت قبل تصريحات ترامب بأربعة أيام أثناء انعقاد مؤتمر ميونيخ للأمن المخاوف الأمريكية بالتأثير على الأمن القومي وقالت "نحن فخورون بسياراتنا، وينبغي أن نظل فخورين بها. والكثير من تلك السيارات يصنع في الولايات المتحدة ليتم تصديره إلى الصين، وإذا كان هذا يعتبر تهديدا أمنيا للولايات المتحدة فنحن مصدمون". وأضافت رابطة صناعة السيارات الألمانية في بيان لها المزيد من المعلومات في هذا الشأن، حيث ذكرت أن صناعة السيارات الألمانية بمفردها وفرت ما يزيد على 113 ألف وظيفة في أمريكا في الأعوام الماضية، مع وجود نحو 300 مصنع هناك، وهو ما جعلها أكبر مُصدر للسيارات من الولايات المتحدة".
وربما تكون هذه هي النقطة الرئيسية التي تلجأ إليها ألمانيا في دفاعها، أي الكشف عن هشاشة الأساس المنطقي للسياسة الحمائية الأمريكية، في الوقت الذي أورد تقرير وزارة التجارة بشأن واردات الولايات المتحدة من الصلب قد توصل في منتصف يناير/كانون الثاني 2018 إلى أن هذه الواردات تشكل تهديدا للأمن القومي الأمريكي وفقا للمادة 232 من ملحق قانون التجارة الأمريكي لعام 1962، فقد دعا ذلك إلى فرض تعريفات جمركية عليها بلغت 25% بحجة أن الصلب مدخل مهم في صناعة الدفاع، إذ يدخل في صناعة السفن الحربية والغواصات، كما أن هناك أنواعا معينة من الصلب المخصوص تدخل في صناعة الطائرات المقاتلة، فأمر العلاقة بين واردات السيارات والأمن القومي لا يمكن تكييفها وقبولها على نحو ما تم مع الصلب.
تظل ألمانيا عرضة أكثر من غيرها من شركاء الولايات المتحدة التجاريين إلى مشكلات تتعلق بآفاق نموها الاقتصادي نتيجة لعدد من الأسباب:
أولها أن ألمانيا هي ثاني أكبر بلد مصدر في العالم بعد الصين، لكن الأكثر أهمية هو أن الصادرات تشكل نسبة كبيرة للغاية من الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى نحو 39%، وهي تعد أكبر بلد متقدم صناعيا يعتمد على الصادرات كقاطرة للنمو، وتبلغ نسبة إجمالي التجارة في السلع والخدمات (صادرات+واردات) ما يزيد على 47% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهي الأعلى على الإطلاق بين الدول المتقدمة، وحققت فائضًا في حسابها الجاري بلغ 297 مليار دولار، وبنسبة 8% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2017.
وبالمقارنة مع الصين، وهي الدولة التي تستهدفها الولايات المتحدة أكثر، نجد أن الصادرات الصينية لا تمثل سوى ما يقل عن 19% من الناتج المحلي الإجمالي، ولا تشكل إجمالي التجارة الصينية سوى 19% فقط من الناتج، وحققت فائضا في حسابها الجاري في عام 2017 بلغ 165 مليار دولار، وهو ما لا يزيد على 1.3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
ألمانيا إذا هي الأكثر اعتمادا على الصادرات كقاطرة لاقتصادها، تتأثر بالضرورة بشدة بأية تطورات تصيب هذه الصادرات، وهو ما بدا واضحا في انخفاض معدل نموها الاقتصادي منذ الربع الثالث من العام الماضي، وتوقع انخفاض معدلات النمو أكثر خلال العام الحالي، وهو ما تم عزوه بالأساس إلى المشكلات التي تجابه التجارة الدولية.
وثانيها أن الفائض الألماني مع الولايات المتحدة قد ارتفع، وذلك مع ارتفاع قيمة الصادرات الألمانية إلى 125.9 مليار دولار في العام الماضي، مقارنة بنحو 117.6 مليار دولار عام 2017، في الوقت الذي سجلت فيه الواردات 57.6 مليار دولار مقابل 53.9 مليار دولار في عام 2017، وهو ما ترتب عليه ارتفاع الفائض في التجارة السلعية إلى 68.3 مليار دولار عام 2018، مقارنة بنحو 63.7 مليار دولار في عام 2017، وقد قفزت ألمانيا في عام 2018 لتصبح ثالث أكبر بلد يحقق فائضا تجاريا مع أمريكا بعد كل من الصين والمكسيك بعد أن كانت في المركز الرابع في عام 2017، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تزايد حمى الضغوط الأمريكية الهادفة إلى القضاء على هذا الفائض أو تخفيضه بشكل ملموس على الأقل.
ثالثها هو وجود تركز نسبي في الصادرات الألمانية للولايات المتحدة، حيث تمثل الصادرات من صناعة السيارات (سيارات الأفراد والشاحنات والحافلات وأجزائها ومستلزماتها وقطع الغيار) النسبة الأكبر من الصادرات، حيث تراوحت تلك النسبة بين 30.4% وحوالي 26% خلال الأعوام الثلاثة 2015-2017، وهو ما يؤدي إلى سهولة استهداف صادرات هذه الصناعة من قبل الإدارة الأمريكية، ويزيد في الواقع من الضغوط الأمريكية أن الآثار السياسية لهذه السياسة الحمائية من المحتمل أن تكون ضئيلة نسبيا، فلا شك أن الفئات الفاخرة من السيارات الألمانية الشهيرة عالميا هي ذات أسعار مرتفعة، وبالتالي فمستهلكيها بالأساس هم من الفئات العليا من الطبقة الوسطى الأمريكية أو الطبقة الأكثر دخلا وثراء، وهؤلاء يمكنهم تحمل الارتفاع في سعر هذه السيارات، أما السيارات من الفئات الأدنى أو السيارات الأرخص نسبيا، فهناك بدائل متعددة لها، سواء كانت من الإنتاج المحلي الأمريكي أو من السيارات المستوردة الأخرى.
وهذا على عكس الصادرات الصينية للولايات المتحدة التي تتوزع على طائفة واسعة من المنتجات، ويأتي على رأسها سلع الاستهلاك الجماهيري الواسع التي تهم كافة الطبقات خاصة الفئات المتوسطة والدنيا من الطبقة الوسطى والفئات ذات الدخل المنخفض، مثل بعض المواد الغذائية والمنسوجات والملابس والأحذية والكمبيوتر والأجهزة الكهربائية والهواتف الخلوية والأجهزة المنزلية وألعاب الأطفال، ومن ثم ففرض رسوم جمركية أعلى على هذه الواردات يرفع من معدل التضخم ويضيف عبئا جديدا على المستهلك ربما ينعكس على مدى رضاه عن سياسات الإدارة. وفي هذا السياق كشفت دراسة لبنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، أن السياسات التجارية الحمائية كلفت المستهلكين والمستوردين الأمريكيين نحو 1.4 مليار دولار خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي وحده.
ربما تظل النقطة الوحيدة الداعمة للموقف الألماني تجاه الولايات المتحدة، مقارنة بالصين، هو وجود موقف داعم من قبل الاتحاد الأوروبي، فليس بإمكان الولايات المتحدة استهداف ألمانيا وحدها، لذا فهي تسعى إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي للوصول إلى اتفاق تجاري تنتزع فيه تنازلات تجارية مهمة من الاتحاد ككل، وعلى رأسه طبعا ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأكبر والمُصدِر الأكبر والطرف الذي يحقق فائضا تجاريا كبيرا معها، ومن المفترض أن الموقف التفاوضي للاتحاد سيكون أقوى نسبيا مقارنة بأي شريك تجاري آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة