تترك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إرثا يصعب تعويضه، إلا أن ألمانيا على موعد مع التغيير.
ليست استطلاعات الرأي وحدها، هي التي توحي بأن موعد التغيير قد حان، وإنما الحاجة إلى سياسات جديدة، من جانبين اثنين على الأقل:
الأول، معالجة قضايا التغير المناخي، وهي ما يرفع أسهم الحزبين الاشتراكي الديمقراطي بقيادة أولاف شولتس، والخضر بقيادة أنالينا بيربوك.
والثاني، تعثر التعافي الاقتصادي بتأثير جائحة كورونا والضغوط على الصادرات وتراجع النمو وانخفاض قيمة اليورو.
الانتخابات البرلمانية المنتظرة يوم 26 سبتمبر المقبل، سوف تأتي بمستشارية جديدة وسياسات تتطلب مواجهة هذين التحديين الكبيرين.
والحقيقة هي أن المسافات بين الأحزاب الألمانية الرئيسية ليست متباعدة. وهذا مؤشر استثنائي على مستوى الاستقرار السياسي وتقارب الرؤى.
ألمانيا، بهذا المعنى، تظل هي نفسها، كائنا ما كان الحزب الذي يحكمها. وكل المتنافسين مؤهلون للتحالف مع أحدهم الآخر. من ناحية، لأن الأغلبية لن تتحقق لحزب بمفرده، ومن ناحية أخرى، لأنه لا توجد خنادق لا يمكن ردمها بين الحزب والآخر.
لعدة دورات انتخابية، وجد الاشتراكيون الديمقراطيون أنفسهم شريكا في التحالف الذي يقوده الحزب المسيحي الديمقراطي.
ولئن ظل حزب الخضر أبعد عن السلطة من هذين الحزبين، إلا أن أجندته، في جانبها الرئيسي المتعلق بمواجهة التغييرات المناخية، يفرضها الواقع الراهن بدرجة لا يمكن تجاهلها.
أولاف شولتس يحظى بمقدار عال من الثقة بأنه يمكن أن يجلس في مقعد المستشارية، بدعوته إلى ترسيخ التعاون الأوروبي، والأوروبي الأمريكي، ومواجهة التغيرات المناخية، واتباع سياسات إدماج جديدة للمهاجرين تجعلهم قوة عاملة مفيدة، وإعادة تقويم العلاقات مع روسيا على أسس الالتزام بمعاهدة هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي، التي تلزم الجميع بعدم تغيير الحدود داخل الدول الأوروبية بالقوة. وهي إشارة صريحة إلى أن ما تقوم به روسيا في أوكرانيا سوف يواجه بحزم أكبر مما فعلت ميركل.
هذه القضايا تضغط على الكثير من الأزرار الصحيحة بالنسبة للناخب الألماني.
آرمين لاشيت، مرشح الحزب المسيحي الديمقراطي، إذا كان يمثل الاستمرارية، فقد استنزفت الاستمرارية نفسها مع بقاء ميركل 16 عاما في السلطة. أما إذا كان يمثل "القدرة على بناء الجسور بين الناس، وجعل كرامة الفرد محور كل شيء"، وهما الصفتان الأهم اللتان وصفته بهما ميركل، فهي قد لا تكفي.
أنالينا بيربوك، ثالث الثلاثة الكبار، تقف على مفارقة ملفتة بالمقارنة مع شولتس. حزبها أكثر شعبية منها كشخص، بينما شولتس شخصيا أكثر شعبية من حزبه. إلا أنهما، بالمعنيين الشخصي والحزبي، قريبان بدرجة تجعل التحالف بينهما الخيار الأكثر طبيعية من اللجوء إلى إعادة تدوير التحالف مع المسيحي الديمقراطي.
بيربوك، في الوقت نفسه، قوية، شجاعة، متحمسة وتمتلك من رباطة الجأش ما جعلها تقول ساعة انتخابها رئيسا مشاركا لحزبها: "نحن لا ننتخب المرأة التي تقف إلى جانب روبرت هابيك، الرئيس المشارك الآخر، نحن ننتخب مستشارة جديدة".
إلا أنها بأعوامها الأربعين، ما تزال أصغر سنا من أن تحل خبرتها المحدودة محل خبرة المرأة ذات الـ66 عاما. ولو حدث أن احتل حزبها المركز الأول، فذلك مما يقدم مؤشرا على مدى الأثر الذي تركته الفيضانات الأخيرة في نفوس الألمان.
التدهور المناخي يمنح أصواته، بالكامل تقريبا، لبيربوك. وربما تفعل الليبرالية الشبابية الشيء نفسه. إلا أن الاقتصاد يظل هو حجر الزاوية.
وهذا تحد كبير أمام الأحزاب الثلاثة الكبرى مجتمعة. الاقتصاد الألماني قائم على التصدير. وتراجع قيمة اليورو أمام الدولار، ميزة ومشكلة في آن. ميزة لأنها تدعم الصادرات. ومشكلة لأنها تخفض قيمة العائدات وتخل بالاستقرار الأوروبي، لا سيما أن التأثيرات تتفاوت بين دول السوق الموحدة، وذلك بينما لا تملك كل الدول الأوروبية ما تملكه ألمانيا من فائض نقدي يوفر لها القدرة على الحركة.
ألمانيا تقف على عتبة تغيير، ولكنه من ذلك النوع الذي يود كل المتنافسين فيه، لو أمكنهم أن يحافظوا على ما تحقق دون أي تغيير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة