تمر هذا الشهر الذكرى السنوية الستون لبناء جدار برلين، الذي أقيم ليفصل الشطر الغربي عن الشرقي من ألمانيا.
واستمر انقسام برلين طوال ثمانٍ وعشرين سنة، أي حتى نهاية الحرب الباردة، وقد أطلق على جدار برلين اسم "جدار الحماية من الفاشية".
بدا جدار برلين كحاجز بسيط مصنوع من الأسلاك الشائكة والكتل الخرسانية، ومع مرور الوقت تم تعزيز البناء وتطويق برلين الغربية بأكملها.
وقد بلغ طول الجدار عام 1975 نحو 150 كيلومترا، أما ارتفاعه فقد تجاوز 3 أمتار.
أصبح جدار برلين في الفترة بين أوائل الستينيات حتى التاسع من نوفمبر عام 1989، أي اليوم الذي تم هدمه فيه وإعادة توحيد ألمانيا، رمزا لعالم منقسم وغير منسجم، عالم تشوبه الشكوك والريبة.
وقد كان ذلك طبيعيا في ظل الصراع الحادث وقتها بين حلف "وارسو" وعدوه اللدود حلف الأطلسي.
الشاهد أن جدار برلين لم يقسم الجغرافيا فقط، بل الأسوأ أنه قسم القلوب والعقول، فأصبح الصراع قدرا مقدورا في زمن منظور.. وقد لقي المئات حتفهم على الجدار في محاولاتهم الدؤوبة للعبور من الناحية الشرقية إلى الغربية، هربا من البطش الأيديولوجي الشيوعي الذي فتك بجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة وكل ما دار في فلكها من دول أوروبا الشرقية.
نهار الجمعة، الثالث عشر من أغسطس/آب الجاري، ألقى الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينمير، كلمة في تلك الذكرى، دعا فيها المواطنين الألمان إلى عدم التوقف عن تذكر الجدار، مضيفا أن ذلك يمثل تحديا مستمرا.
وأضاف: "الحرية والديمقراطية لا تمنحهما الطبيعة أبدا ولا تتحققان مرة واحدة وإلى الأبد، بل يجب النضال من أجل الحرية والديمقراطية، وأيضا حمايتها والدفاع عنها والحفاظ عليها".
هل يُلقي الماضي البعيد بظله على الحاضر القريب في الداخل الألماني؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، وربما هذا ما لفت إليه الرئيس الألماني في كلمته وبشكل خاص حين أشار إلى أن "الحرية والديمقراطية بحاجة إلى التزام حاسم وشغف"، موضحا أن ذلك يبدأ بالمشاركة في انتخابات ديمقراطية، وأنه يتوجب أن يفكر الجميع في الجدار عندما يجري انتخاب البرلمان الألماني الجديد قريبا، وبالتحديد في 26 سبتمبر المقبل.
حديث الرئيس "شتاينماير" يدعونا للتساؤل: "هل الرجل يخشى من أن يقوم الألمان ببناء جدار مرة أخرى، لهذا يتناول في حديثه ما يشبه تحذير الألمان؟
الحقيقة هي أن المجتمع الألماني يكاد بالفعل اليوم يسعى في طريق بناء جدار غير مصنوع من الأسلاك والحجارة كما جرى قبل ستة عقود، وإنما جدار نفسي وعقلي أساسه التشدد.
الناظر إلى المجتمع الألماني يدرك تمام الإدراك أن أصوات العنصرية وصيحات القومية تولد في أرجاء البلاد، ويكفي النظر إلى حركة مثل "بيغيدا"، أو بقية التيار اليميني الألماني الذي فاز بنحو مئة مقعد من مقاعد البرلمان في الانتخابات الأخيرة، ليدرك أن هناك جدارا آخر يهدد الحريات والديمقراطية في ألمانيا.
هذا الجدار يهدد الوحدة والانسجام أول الأمر بين الألمان وبعضهم، وتاليا بين الألمان وبقية شعوب العالم.
تبدو النظرة الشوفينية كارثية في حقيقة الأمر على مستقبل الديمقراطية في الداخل الألماني، والمخاوف تتصاعد يوما تلو الآخر من أن تجد الأفكار المتطرفة لها رواجا، ما يهدد الوفاق المجتمعي الداخلي ويؤدي في نهاية الأمر إلى سيادة ثقافة الانقسام وغياب روح الانسجام.
هل العالم المعاصر يعاني أزمات بناء أكثر من جدار برلين شرق الكرة الأرضية وغربها؟
يبدو أن ذلك كذلك قولا وفعلا، وهي جدران تتراوح بين منشآت إسمنتية يمكن التوقف عنها وهدمها، وحواجز إنسانية، وهي الأخطر، إذ تترك انطباعا بأن البشر ماضون في طريق المحاصصة والتمذهب، ومن غير أمل في ذوبان روح الكراهية وإحلالها بالمودات الخالصة.
ظل جدار برلين رمزا لثقافة الانقسام التي تبعد الأشخاص عن بعضهم، وقد لمس العالم في فترة إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هذه الروح، وذلك حين سعى إلى إقامة جدار على حدود بلاده مع المكسيك يمنع وصول المهاجرين غير الشرعيين إلى الداخل الأمريكي.
ولعل ما يستوجب الانتباه في ظل حالة العداء التي تتفشى في كثير من أرجاء الكرة الأرضية هو أن الجدران تدعو للشعور بالألم، لا سيما أن من يسعون في طريق تشييدها يصبحون في نهاية الأمر هم أنفسهم أسرى لها.
كان جدار برلين رمزا لثقافة العزلة والانفصال والحقد بين شعب ألماني واحد، وقد تسبب في كثير من الألم الهائل نفسيا وجسديا لعموم الأوروبيين وليس للألمان فقط، واليوم تقف جدران مادية ونفسية في طريق التواصل والحوار الحضاري بين بشرية طال بها ليل الكراهية.
اعتُبر جدار برلين عبر القرن الماضي رمزا سيئا لبشرية منقسمة على ذاتها، وقد خيل للشموليين والتوتاليتاريين من السوفييت أنه حاجز إسمنتي أمني سيبقى إلى الأبد، لكن الأصل في الإنسانية التواصل والتعارف، اللقاء والانفتاح لا الانغلاق، وما عدا ذلك لا يبقى على الأرض بوصفه غير نافع للناس.
في يونيو من عام 2019 أظهرت نتيجة الانتخابات البرلمانية الأوروبية هنا جدرانا نفسية عميقة تنشأ وتكبر في نفوس الأوروبيين، وأكدت المعطيات التي توافرت وقتها أن قطاعا كبيرا من الأوروبيين باتوا يفضلون الجدران العالية على الجسور الرحبة، فقد حصل التيار اليميني المتطرف في الداخل الأوروبي على أكثر من خمسين مقعدا تم خصمها من الأحزاب الديمقراطية التقليدية، وكذا من أنصار الاشتراكية، وقد كانا هما الكتلتين المهيمنتين على أبعاد الحياة السياسية الأوروبية منذ وقت بعيد.
تبدو تحذيرات الرئيس الألماني شتاينماير قبل بضعة أيام كأنها تحذير من أن تسود أصوات التطرف الداخل الألماني، بعدما انتخب الأوروبيون من قبل أصواتا لا تحبذ بقاء الاتحاد الأووربي، بل تسعى إلى أزمنة التفكيك، والتي قادت عند لحظة بعينها إلى حربين عالميتين راح ضحيتهما أكثر من سبعين مليون إنسان.
الرئيس الألماني في غالب الظن اتخذ من ذكرى سقوط جدار برلين مناسبة لإيقاظ الأوروبيين عموما، وليس الألمان فقط، إلى مخاطر خسارة أوروبا ثمار التنوير والليبرالية، تلك التي اكتسبتها بعد جهد عقلي طويل عبر نحو خمسة قرون من السعي الحثيث جهة الآخر.
من يبنون الجسور يتمكنون من السير إلى الأمام، والجسر هو أداة التواصل البشري، أما الجدران فهي صوت العزلة والتمحور غير الخلاق حول الذات، وعليه فما أحوج عالمنا إلى إسقاط جدران برلين المعاصرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة