يبدو أن العالم على موعد جديد وخيارات مستجدة مع عودة "طالبان" إلى الحكم في أفغانستان.
هذا ما عبّرت عنه حالة الترقب بالعواصم الأوروبية، وحتى في الولايات المتحدة، التي تقف كالمتفرج أمام ما يجري، مع إطلاق خطاب إعلامي أمريكي مشوّش وتصريحات متضاربة لمسؤولي إدارة "بايدن"، وهو ما انعكس على حالة التجاذب داخل الكونجرس في أول اختبار حقيقي للرئيس الديمقراطي، مع محاولة تفسير ما يحدث باعتباره نتاج حالة خاصة في الداخل الأفغاني، وكأن الولايات المتحدة لم تذهب إلى الحرب هناك منذ أكثر من عشرين عاما لمواجهة ما جرى في 11 سبتمبر 2001 وارتبط بمتطلبات الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي.
لا جدال أن الولايات المتحدة تتحمل جزءا كبيرا مما يجري في أفغانستان، فالإشكالية الكبرى ليست متعلقة بما تبنَّاه الرؤساء الأمريكيون تباعا من مواقف ضعيفة في التعامل مع الوضع هناك عبر الخروج الأخير، والذي أدى إلى حالة فوضى، ظهرت ملامحها مثلا في الصور التي التُقطت من مطار كابول وراجت عالميا لأفغان يريدون الهروب، وإنما متعلق بغياب الرؤية وعدم وجود استراتيجية حقيقية في التعامل مع الوضع الأفغاني الجديد، وكذا الاستمرار في إطلاق مواقف غير مسؤولة تجاه تطورات الأوضاع في أفغانستان ودول جوارها.
الإدارة الأمريكية الراهنة لم تكن تملك بدائل وخيارات كثيرة إلا الخروج من أفغانستان، وفقا لرؤية "بايدن"، لذا سيمضي المشهد الأفغاني لبعض الوقت تجاه أزمة حقيقية، في ظل احتمالات عودة المهاجرين إلى بلادهم وذهاب آلاف الإرهابيين إلى أوروبا من البوابة التركية، التي يُتوقع أن تُساوم بهم، ما يشير إلى أن هناك أطرافا ستربح من إدارة الأحداث الراهنة، وفي المقابل أطراف أخرى ستخسر، بصرف النظر عن طبيعة المواقف والتوجهات المعلنة، التي يتعامل بها المجاورون والبعيدون، والتي ترى أن الخطر قائم وعلى الأبواب، حتى مع الاستعداد التام له، مثل الذي تقوم به دولة كروسيا بتنسيقها مع الصين حول ضرورة استمرار دعم "طالبان" لإطلاق حوار وطني لتقريب وجهات النظر في الداخل الأفغاني وبدء مرحلة جديدة، توازيا مع إطلاق قادة "طالبان" خطابا سياسيا وإعلاميا تضمن طمأنة العالم من أنه لا خطر وسيتم الحفاظ على مصالح الجميع، بما في ذلك دول جوار أفغانستان"، بدليل إطلاق الحركة تصريحاتٍ إيجابية تجاه تركمانستان لإحياء مشروع أنابيب الغاز، الذي يربط الأخيرة بأفغانستان وباكستان والهند.
رغم ذلك، فإن الإقليم بأكمله سيعاني بعض الوقت من حالة عدم استقرار، وبالتالي ستعمل دولُه على اتباع إجراءات مفصلية لمواجهة تخوفات تمدد أحزمة الإرهاب من وإلى أفغانستان، خاصة أن الرئيس "بايدن" أكد وجود مصالح لروسيا والصين فيما يحدث، وأن الولايات المتحدة لم يكن دورها بناء دولة في أفغانستان، وهنا يُفهم أن الرجل يُخلي مسؤولياته عما يجري مبكرا، لأن عكس ذلك سيخصم من شعبيته.
من ثم، فإن على العالم الغربي ودول الجوار الأفغاني البحث عن حل، فمن المحتمل اتساع البيئة الحاضنة للإرهاب في العالم، الأمر الذي يؤكد أن الأطراف الرابحة والخاسرة مما يجري ستتعامل مع بعض السيناريوهات، التي تبدو في إطارها صفرية وغير متوافقة، بل وقد تكون صدامية أحيانا.
ففي مقابل الدعم التركي والروسي لما يجري وتأكيد الحضور الكبير في التفاصيل المستقبلية، ستقف دول الاتحاد الأوروبي -مؤقتا- تتوجس من المستقبل المحفوف بالخطر في أفغانستان، والذي قد يتمدد إلى مناطق أخرى، على رأسها الشرق الأوسط، الذي قد يشهد موجة جديدة من الإرهاب، عبر مناطق التماس الاستراتيجي في العراق وسوريا، ما يتطلب عودة التنسيق الأمني والاستخباراتي والقيام بدور استباقي لمواجهة تلاحُق الأحداث.
هذا الأمر ركز عليه الرئيس "بايدن" حين أكد أن المصلحة القومية لبلاده في أفغانستان كانت بشكل أساسي تتمحور حول "منع استهداف الولايات المتحدة بهجمات إرهابية انطلاقاً من أفغانستان الغارق في الحرب"، على حد قوله، مضيفا أن "روسيا والصين ترغبان في إغراق الولايات المتحدة لأجل غير مسمى في أفغانستان"، فيما هدد بـ"رد مدمِّر" إذا هاجمت "طالبان" المصالح الأمريكية.
هذا التخوف الأمريكي الأخير متوقع، رغم كل رسائل الطمأنة التي تبعث بها "طالبان" حاليا في ظل تضارب وتعدد المواقف وتباينها بين الأطراف المختلفة.
وليس أدل على هذا التباين في المواقف من إقدام روسيا على إظهار خطاب إيجابي تجاه "طالبان"، بإعطائها نوعاً من الاعتراف الدولي عندما استقبلت الشهر الماضي وفداً من الحركة لإجراء محادثات أشاد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في نهايتها بتوجهات الحركة بعدم التدخل في شؤون جيرانها.
ولم تمنع تطورات المشهد هناك الجانب الروسي من إجراء مناورات عسكرية مؤخرا مع الصين، ثم مناورات مع طاجيكستان وأوزبكستان، في ظل واقع جديد تفرضه "طالبان" في نطاقها الجيواستراتيجي.
على أي حال، سننتظر ما تقوم به الحركة عندما تتولى إدارة أفغانستان واقعيا، وسط حسابات مستجدة ستطول الجميع، بما في ذلك توقع إجراء "طالبان" حوارا مع الاتحاد الأوروبي.
على الجانب الصيني، قد تعمل "بكين" على تكثيف جهودها الدبلوماسية مع دول آسيا الوسطى، حيث تملك نشاطاً اقتصادياً كبيراً، وقد تزيد مساعدتها الأمنية لقرغيزستان وتتحرك لتعزيز نفوذها ووجودها في طاجيكستان، التي تشترك في الحدود مع منطقة شينجيانغ، وبها أقلية الأويغور المسلمة.
من هذا المنطلق ربما تقدم الصين مساعدة أمنية لطاجيكستان لمكافحة الإرهاب والتهريب.
على الجانب التركي، ترى "أنقرة" أن الرسائل التي وجهتها حركة "طالبان" إيجابية، معلنة أنها ستواصل محادثاتها مع الولايات المتحدة والحلفاء الآخرين حول أمن مطار كابول.
ومعلوم أن تركيا طلبت من الولايات المتحدة تأمين مطار كابول بمئات العسكريين الأتراك، وذلك خلال اللقاء الذي جمع "بايدن" بالرئيس التركي، يونيو الماضي، على هامش قمة حلف "الناتو"، التي انعقدت في العاصمة البلجيكية، وهي محاولة تركية لوضع قدم لها في أفغانستان.
أما إيران، فقد دعت كل الجماعات في أفغانستان للتوصل إلى ما أسمته "اتفاق وطني".
في المجمل، ستظل عيون العالم متجهة إلى أفغانستان لحين قراءة ما سيجري من تطورات دراماتيكية ستمس أمن الجميع، البعيد قبل القريب، في ظل معادلة تؤكد وجود خاسر ورابح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة