كان واضحاً في التصريح التليفزيوني، الذي أعقب الاجتماع المهم والتاريخي الذي جمع سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني في دولة الإمارات، بفخامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان..
حرص الأخير على توظيف كل كلمة إيجابية في سياق الهدف من هذا الاجتماع، والذي يتلخص في فتح تعاون كبير وبناء شراكات اقتصادية مجزية، واصفاً ما تمخض عن ذلك الاجتماع بأنه اجتماع مناقشات بشأن استثمارات إماراتية جادة في تركيا، وأن الحديث انصب على نوع الاستثمارات الممكنة ومجالاتها في لقائه الذي حضره إلى جانبه كل من رئيس صندوق الثروة ورئيس دعم الاستثمار التركيين.
وقد وصف الرئيس التركي بأن لدى الإمارات أهدافاً وخططاً استثمارية جادة للغاية، حيث استخدم عبارات "الأمل"، التي كررها ثلاث مرات في مواضيع مرتبطة ببعضها، في أن تطلق دولة الإمارات تلك الاستثمارات في القريب في بلده تركيا.. وما بين ثنايا الخطاب تتضح كثير من المعاني.. وهذا أمر متعارف عليه عند قادة الدول والسياسيين.
وفي سياق حديثه تطرق الرئيس التركي إلى التقلبات في العلاقات بين الدول، موجداً بذلك الذرائع والدوافع لذلك الاجتماع وكاشفاً بأن هذا الأمر متعارف عليه في عالم السياسة، وهنا كان يشير إلى حالة التوتر التي سادت العلاقات العربية التركية، والتي كانت سببها تركيا وتدخلاتها في الشأن العربي، وكأنه أراد أن يعبر -وإن ضمنياً- فيما يعتقد أنه رسالة تعبر عن رغبة وعن نوع من المرونة، ربما قد تقرأ، على مضض، رغبة تركية في إعادة النظر في مواقفها تجاه قضايا الشأن العربي ومناقشة ذلك وربما موقفها أيضاً من دعمها لتيارات الإسلام السياسي.
وألمح "أردوغان" إلى سعي دولته منذ أشهر خلت إلى التواصل مع دولة الإمارات، حيث عقدت الاستخبارات التركية اجتماعات مع نظيرتها الإماراتية في العاصمة أبوظبي، واصفاً تلك الاجتماعات بأنها أوصلت العلاقة بين الدولتين إلى مرحلة "معينة"، وربما نكون على أعتاب مرحلة جديدة من العلاقات بين تركيا ودولة الإمارات، وكذلك ربما بين تركيا وعدد من الدول العربية.
وهنا لا بد أن نستدعي من ذاكرة المشهد الاجتماعات التي تمت في الشهور الماضية بين تركيا وجمهورية مصر العربية، وعبرت تلك اللقاءات عن محاولات لخلق بوادر تحسن في العلاقات التركية المصرية، وهنا يمكننا الربط في مسألة التنسيق بين الدول العربية، وتحديداً زيارة سمو الشيخ طحنون بن زايد لمصر الشقيقة قبل أسابيع قليلة ولقائه بفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ثم تلت تلك الزيارة زيارته إلى أنقرة، موضوعنا الراهن.
تصريحات الرئيس التركي ركزت على موضوع جوهري ومهم، وهو أنه عبر صراحة عن أمله في لقاء يجمعه بصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكرر ذلك في سياق حديثه بأنه يأمل أن يكون هذا اللقاء بعد اجتماعه مع سمو الشيخ طحنون بن زايد، مستشار الأمن الوطني، الأمر الذي يعبر عن حرص كبير لاستخدامه عبارات يدرك المتابع من خلالها أن هذا اللقاء يمثل أولوية بالنسبة لدولة تركيا ورئيسها، وقد تختلف مدى تلك الأهمية بالنسبة لدولة الإمارات.
كان من الواضح اعتناء "أردوغان" الشديد بمفرداته في حديثه عن دولة الإمارات، وحرصه على استخدام عبارات يحاول من خلالها تلطيف الأجواء معها، مستدعياً مصطلحي "الثقافة" لتعبر عن الصداقة ومصطلح "المعتقد الديني" للتعبير عن علاقات الأخوة بين الشعبين التركي والإماراتي، مفردات ترفل بحرص شديد في محاولة لكسب صاحب القرار في دولة الإمارات، التي يشار إليها في المحافل الدولية على أنها دولة محورية في المنطقة، وهو المصطلح الذي استدعاه الرئيس التركي في سياق حديثه، وكما هو متعارف عليه أن المحور هو المدار الذي تدور في فلكه الأشياء، وهو يعلم أن الإمارات بسياستها كبحت العديد من الأطماع في المنطقة، علاوة على أنها تحارب تيارات الإسلام السياسي، واستخدم "أردوغان" بصيغة الجمع عبارة "أن نتغلب على بعض المشاكل في المنطقة"، في إشارة إلى استعداده للتعاون معها.
دولة الإمارات دولة ذكية وذات حضور مهم في المشهد الدولي، ولديها من الوعي السياسي بالتاريخ وامتلاك القوة الاقتصادية وسجلها المضيء في العلاقات الدبلوماسية والأعمال والمواقف الإنسانية، ما يجعلها محور اهتمام كبير لدى الدول، وهي دولة ملهمة ومؤثرة في الشأن العالمي، ولديها من الحنكة والحكمة والشكيمة ما يجعلها قادرة على الإسهام بفاعلية في مواجهة تحديات المنطقة وبلورة حلول جادة عبر خلق آفاق جديدة وفرص للتعاون، ويُعرف عنها أنها قادرة على صناعة وخلق الظروف المناسبة وبناء الثقة مع الشركاء الذين يتمتعون بالوضوح والمسؤولية والجدية تجاه المنطقة والمصلحة المشتركة، والإمارات الدولة النموذج التي ترتكز في مبادئها على بناء الجسور وتوطيد العلاقات بين الدول، وقوة الدفع التي تعتمد عليها في سياستها الخارجية هي العلاقات الاقتصادية، علاوة على دورها الإيجابي في مواجهة الأزمات التي تواجه العالم، بالإضافة إلى دورها الإنساني المعروف عنها.
وكما هو معلوم لدى الجميع، لا شك أن هناك ملفات ثقيلة، عدد كبير منها عالق بين الدولتين، وقد يكون من المبكر الحديث عنها وعن حلول لها تلوح في الأفق، ومنها ملف تيارات الإسلام السياسي والتّدخل في الشأن العربي مثل ليبيا واليمن، وملفات أخرى تتعلق بالدول المحيطة، وملف الهاربين في تركيا والقنوات المدعومة تركياً، والتي تسيء لدولة الإمارات وجمهورية مصر والمملكة العربية السعودية، والتصريحات غير المسؤولة من بعض المسؤولين الأتراك في عدد لا يحصى من المرات في السنوات الأخيرة، والأتراك أمام فرصة ذهبية لتحسين علاقاتهم مع الدول العربية، ولعل ملف الاستثمارات الإماراتية الجادة، التي تحدث عنها "أردوغان"، سيكون المعول الذي يتم به حلحلة تلك الصخرة، ففي النهاية تركيا تبحث عن حلول للتحديات التي تواجهها اقتصادياً ولعلاقاتها وسمعتها المتوجسة مع العديد من الدول.
أما دولة الإمارات فمواقفها واضحة، ولديها من الإمكانيات والقدرات والحضور الدولي والدبلوماسية الحكيمة ما يجعلها فاعلة على نحو مؤثر في الملفات الدولية.
كل ذلك، وبعيداً عن الأحكام المطلقة، في اعتقادي ربما سيجعل تركيا مستقبلا تعيد النظر في سياساتها تجاه الإمارات والعالم العربي ككل، فمبدأ المكاسب والمصالح المشتركة يوفر أرضية مناسبة للبدء في مرحلة جديدة إذا صدقت نيات تركيا وتراجعت عن طموحاتها وغيّرت من سلوكياتها في المنطقة العربية.
يبقى أن نقول إن دولة الإمارات صاحبة مشروع حضاري كبير يقوم على قيم عظيمة وخالدة، مشروع يدعو إلى السلام والتسامح والحوار والتواصل مع الآخر والعيش المشترك، وتحقيق الاستقرار والسلم العالمي والازدهار والتنمية على رأس أولوياتها، ولا شك أن هذا المشروع حريٌّ أن يكون الهدف الذي تقوم عليه التعاونات بين الدول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة